منذ انطلاق الحركة الصهيونيّة كان هناك دوماً حركة أو فصيل يُعدّ العدّة لتحرير فلسطين. ومنذ إنشاء دولة الاحتلال، كان هناك حالة تنافس بين قوى وتنظيمات فلسطينيّة تزايد على بعضها البعض في التعبير عن إخلاصها وعزمها على تحرير فلسطين — وبالقوّة المسلّحة.
لكن هذه السنة هي تذكير بمرور قرن كامل من الزمن على وعد «بلفور»، والقضيّة الفلسطينيّة وُلدت قبل الوعد البريطاني. والحالة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة وفي المنافي تعاني من حالة ضياع وتشتّت لم يسبق لها مثيل. لم يتحكّم محمود عبّاس بمقدّرات منظمّة التحرير هكذا عفواً وفقط بسبب الدعم الخارجي الأوروبي والأميركي والإسرائيلي. ولم يصبح منافسه (وهو أسوأ منه — إذا كان ذلك ممكناً) محمد دحلان ممثّلاً للمعارضة الفلسطينيّة وهو ينخر في المخيّمات الفلسطينيّة بتمويل إماراتي سخي (وبالتنسيق مع الحكم المصري وحليفه الإسرائيلي). لكن لا أحد يتحدّث اليوم عن ثورة فلسطينيّة. والثورة الفلسطينيّة كانت شعاراً لمرحلة وعنواناً لمشروع انخرطت فيه قوى فلسطينيّة وعربيّة بقيادة ثورة فلسطينيّة مسلّحة. لكن نكبات متتالية أصابت تلك الثورة حتى بات خروجها (أو إخراجها) من لبنان مفصل من مفاصل التاريخ العربي الحديث والذي وطّد حكم نظام «كامب ديفيد» الإقليمي على مستوى العالم العربي. أي أن القضاء على الثورة الفلسطينيّة المسلّحة كان من ضرورات نشر عقيدة وسياسة «كامب ديفيد» على مستوى العالم العربي برمّته. أكثر من ذلك، أن احتضان نظام «كامب ديفيد» المصري كان بمشاركة مباشرة من ياسر عرفات نفسه الذي كان يفاوض على الانضواء في النظام العربي «الكامب ديفيدي» لكن بشروط لم يقبلها منه أعداؤه (حتى وفاته مسّمماً).
من الذي أجهض الثورة الفلسطينيّة؟ هذا سؤال سيؤرّق أجيالاً، حتى تحرير كل فلسطين. والسؤال، لا يعني بتاتاً إلقاء الشك على فكرة أو هدف تحرير فلسطين وعلى هدف تقويض دعائم الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. وتدمير دولة إسرائيل يمكن أن يحدث من الخارج عن طريق العنف الثوري أو عن طريق حرب كلاسيكيّة مدمّرة أو يمكن أن يحدث نتيجة عوامل داخليّة، أو تلاقي بين عناصر ذاتيّة وموضوعيّة. إن توصّل فريق الأقليّة البيضاء الحاكمة إلى خلاصة استحالة الاستمرار في نظام الفصل العنصري لم يكن نتيجة تأمّلات أخلاقيّة في كهف في الشخروب، وإنما كان نتيجة تنامي الغضبة الشعبيّة والعنف الثوري وصعوبة قدرة الدول الغربيّة (التي رعت نظام الفصل العنصري) في الاستمرار في رعاية النظام وضخّ المال «السياحي» فيه بسبب الاحتجاجات في العواصم الغربيّة نفسها. كما أن الحصار الأخلاقي الذي فرضه معارضو ومعارضات نظام الـ«أبارثيْد» نجح في إضفاء عزلة ديبلوماسيّة على عمل دولة الفصل العنصري.
والحديث عن إجهاض الثورة الفلسطينيّة يمكن أن لا يكون — أو يجب ألا يكون — حكماً بنهاية الثورة الفلسطينيّة. ليس معروفاً بعد مصير الصهيونيّة ومآلها لكن من المشكوك فيه أن تزنير الكيان بدول عربيّة متحالفة جهاراً أو ضمناً أو مداورة معه يمكن أن يؤمّن له الاستمراريّة والديمومة. والتحالف الوثيق بين العدوّ والسلالات الخليجيّة لا يضمن عن بعد إنقاذاً للكيان من التهلكة. لا تنقذ حتى القوّة الأميركيّة العظمى كيان الاحتلال كما لم تستطع أن تنقذ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. لكن هذه مرحلة جديدة من مراحل النضال الفلسطيني التي تشهد تجميداً وهُدَناً وانكفاءً لم تشهده مراحل الصراع العربي الإسرائيلي. وهذه مفارقة من المفارقات: إن هناك حالة من الارتخاء والاستكانة الشعبيّة الفلسطينيّة (والنأي الجماهيري العربي المشغول إما بالرياضة أو بالفن أو بمغامرات حاكم دبيّ وبطولاته العالميّة في ركوب الـ«مترو» في لندن) تترافق — أو تتناقض مع — حالة من بروز أصلب حركات المقاومة في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. إن صمود المقاومة الفلسطينيّة في غزة وصمود المقاومة اللبنانيّة في لبنان في عام ٢٠٠٦ تفوّق على أداء الجيوش العربيّة في تاريخه ودلّل على ارتقاء نوعي في حالات المقاومة ضد العدوّ الذي عاش تجربة المقاومة في لبنان قبل ١٩٨٢ يقدّر التطوّر الهائل الذي شهدته المقاومة، ويقدّر أيضاً نموّ حالات الصمود الميداني المدروسة والمشغولة بعناية فائقة — والأنفاق فنون ثوريّة أبدعتها المقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة في العقد الأخير من الزمن (كانت حالات الصمود في المواجهات اللبنانيّة، في سنوات ما قبل الحرب، عفويّة وغير مخطّط لها كما حدث في صور وعين الحلوة وقلعة الشقيف في عام ١٩٨٢ لأن القيادات العليا تركت الميدان ورحلت بأوامر قياديّة عليا).
ومصطلح «الثورة الفلسطينيّة» مصطلح فضفاض يحمل في طيّاته أحلاماً وعواطف لم تكن تتسع في إطار عقيدة مُطلقيه. هل كان أحمد الشقيري يقود «ثورة» بالفعل؟ أو أن الأنظمة العربيّة كانت ترعى ثورات من أي نوع كان؟ وحركة «فتح»، كانت في عقيدتها المحافظة ترفض الثورات وتطلق مصطلح «الثورة» على عمليّاتها العسكريّة، الناجحة منها والفاشلة، في محاولة منها لاستيعاب الطاقات الجماهريّة الخلاّقة في منتصف الستينيات، وخصوصاً بعد هزيمة ١٩٦٧ وبعد نصر معركة «الكرامة» (كما أن الخطاب البعثي زاوج بين الانقلاب العسكري وبين الثورات). وحركة «فتح» كانت صريحة في شعاراتها وأهدافها: هي كانت تهدف إلى «توريط» الأنظمة في اشتباكات محدودة مع العدوّ أملاً في دفع مسيرة سلميّة لم تتوقّف قنابلها وصواريخها يوماً عن الانهمار. وحركة «فتح» أرادت توريط الأنظمة من دون أن تعاديها، في محاولة مستحيلة من التوفيق بين تناقضات. فهي كانت من أنصار «عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول العربيّة» والتنظيرة الماوية المستوردة عن الفصل بين «التناقضات الأساسيّة والثانويّة». وكيف تتورّط الأنظمة طوعاً في معركة أو معارك عملت المستحيل لتجنّبها؟
إن رصد تاريخ إجهاض الثورة الفلسطينيّة يبدأ من دور ياسر عرفات نفسه. حكاية صعود حركة «فتح» لا تزال حكاية غامضة لا يتفق أطرافها على تحديد ولادتها، ولا حتى على مكان الولادة. لكن ياسر عرفات سرعان ما سيطر على مقدّرات الحركة وبطرق لا تزال مجهولة. ينسى البعض أن اللجنة المركزيّة في حركة «فتح» كانت قد سحبت الثقة من ياسر عرفات وأحالته على التحقيق في أيّار ١٩٦٦ ــ حسب نصّ القرار الفتحاوي آنذاك، «للأسباب التالية: أ) تقديم تقارير كاذبة ومشوهة عن العمل، وخاصة في المجال العسكري. ب) التمرّد على القرارات الجماعيّة التي أصدرتها قيادة الحركة. ج) تحريض بعض القواعد على قيادة الحركة بطريقة لا أخلاقيّة. د) اتباعه سياسة الاستزلام ومحاولة شراء ضمائر أخواننا المناضلين. ه) تبديد أموال الحركة بأساليب غير مسؤولة. و) إفشاؤه أسرار الحركة إلى عناصر خارج الحركة. ز) قيامه برحلات وسفرات سريّة إلى قبرص وبيروت والسعوديّة من دون إذن من الحركة ورفضه تقديم تقارير عن أسباب سفراته هذه». (راجع النص الكامل في نزيه أبو نضال، «تاريخيّة الأزمة في فتح»: من التأسيس إلى الانتفاضة»، ص. ٤٢-٤٣). والتركيز على دور ياسر عرفات أساسي في تحليل أسباب إجهاض الثورة لأنه كان منذ صعوده يرسم الطريق إلى نضال ديبلوماسي، ورأى أن العمل العسكري لا يفيد إلا فيما يرفد النضال الديبلوماسي. لم يكن عرفات يهدف إلى التعويل على النضال العسكري لتحرير فلسطين، وهو سمح بإنشاء بيروقراطيّة عسكريّة بهدف الضغط على الأعداء والمنافسين في الثورة الفلسطينيّة، خصوصاً هؤلاء الذين كانوا يعزمون على العمل عسكريّاً على تحرير فلسطين. (لكن الفارق بين عرفات وبين خلفائه عبّاس ودحلان أنه رأى أنه من غير المجدي التخلّي بالكامل عن ورقة الكفاح المسلّح قبل نيل تحرير أراضٍ في فلسطين، ولو عبر الديبلوماسيّة الأميركيّة — هذا إذا وافق المرء على إمكانيّة تحقيق تحرير أي شبر من فلسطين عبر الراعي الأميركي).

لم تُجرِ منظمّات المقاومة نقداً ذاتيّاً ومراجعة
جذريّة لتجربة الأردن


هذا لا يعني أن ياسر عرفات وحده يتحمّل المسؤوليّة. إن ياسر عرفات يتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة فيما آلت إليه منظمّة التحرير تحت قيادته. وهو سمح بالتفريط برصيد عسكري هائل لمنظمّة التحرير في الساحة اللبنانيّة، ولم يحسن الدفاع عنه. لكن القوى الثوريّة التي كانت تطرح شعارات الثورة الشاملة هي التي تتحمّل أيضاً مسؤوليّة عن التقصير في دفع العمل الثوري. كان يمكن لـ«جبهة الرفض» التي أُنشئت في عام ١٩٧٤، ردّاً على طرح «فتح» ـ الديموقراطيّة من أجل إقامة دويلة على أرض الضفّة الغربيّة والقطاع، أن تطرح بديلاً ثوريّاً. لكن تجربة الجبهة فشلت على كل الصعد: كانت تتلقّى عوناً ماليّاً هائلاً من النظاميْن العراقي والليبي لكنها كانت تنفقه على تدعيم بيروقراطيّة التنظيمات المنضوية في الجبهة، بالإضافة إلى إنفاق سخي على العمل الإعلامي المتكرّر. فكان للجبهة مجلّة تشبه كثيراً مجلّة «الهدف» (التابعة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين)، كما أن مجلّة «إلى الأمام» (التابعة للجبهة الشعبيّة ـ القيادة العامّة) كانت تشبه مجلّة الجبهة الشعبيّة الأم. وقصور جبهة الرفض (التي حُلّت بمجرّد أن تلاقى النظامان السوري والعراقي بعد زيارة السادات إلى فلسطين المحتلّة) يعود إلى عدم تقديم بديل عسكري أو سياسي مؤثّر. وهذه الجبهة كانت بحكم اعتمادها على التمويل من النظاميْن محكومة بسقف طموحات ومصالح النظاميْن — خصوصاً النظام العراقي الذي سرعان ما أثبت في الثمانينيات رغبته في التخلّي عن شعاراته الفلسطينيّة مقابل علاقات أفضل مع واشنطن (أدار مبعوث صدّام، نزار حمدون، حملة التقرّب من اللوبي الصهيوني في واشنطن).
لم ينجح ياسر عرفات فقط في جذب عناصر وقيادات وشلل وأجنحة في «فتح» عبر سطوته الماليّة (التي تحوّلت إلى سطوة عسكريّة). هو نجح أيضاً في جذب قيادات في داخل كل التنظيمات الفلسطينيّة، فكان له فيها آذان وعيون. وهو جذب أيضاً كل التنظيمات الفلسطينيّة بحكم المعونات الماليّة التي كان يوزّعها على كل الفصائل المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينيّة، مما أنتج بيروقراطيّة هائلة في داخل جسم كل التنظيمات الفلسطينيّة من دون استثناء. قتلَ المال العمل السرّي، وأصبح لمراكز الأمن والعمل السرّي مكاتب بأعلام وحرس علني. وكانت الميزانيّة تسمح بإنشاء مكاتب ومخيّمات تدريب (وحتى «كليّة عسكريّة» في حالة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين) لكن هذه البيروقراطيّة كانت تتناقض مع طبيعة العمل السريّ الثوري التي كانت تلك التنظيمات تنادي به. وعندما كان المقاتلون متركزّين في المكاتب والمخيّمات وقواعد كان يسهل تشتيتهم من قبل طائرات العدوّ. لكن هذه المشكلة تعود إلى ما سبق تجربة لبنان، أي تجربة الأردن. والتسيّب والتراخي الذي أصاب العمل الثوري، بالإضافة إلى استسهال السكن في أحياء بورجوازيّة، سهّل اغتيال عدد كبير جداً من قادة الثورة.
إن الحديث عن إجهاض العمل الفلسطيني الثوري (أي إجهاض مشروع تثوير العمل العربي برمّته) يحتاج إلى مراجعة تجربة الأردن. وعدم مراجعة تجربة الأردن أدّت إلى إعادة التجربة — وبأخطاء أكبر — في لبنان. زهت «الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين» عبر السنوات بأنها كانت وحدها التي أجرت مراجعة نقد ذاتي لتجربة عمّان (والحديث هنا عن كتاب للجبهة بعنوان «حملة أيلول والمقاومة الفلسطينيّة: دروس ونتائج»). لكن العودة لتلك المراجعة تصيب القارئ بالدهشة: عمليّة النقد الذاتي لم تكن إلا إطراء ذاتياً من الجبهة لدورها وشعاراتها، بما فيها ذلك الشعار الشهير «كل السلطة للمقاومة»، والذي تلقّى الكثير من السخرية وساهم في الحملة الدعائيّة للنظام الرجعي (راجع ص. ١٣). لم تجرِ منظمّات المقاومة نقداً ذاتيّة ومراجعة جذريّة لتجربة الأردن، ولو فعلت لما تكرّرت التجربة بمعصيّاتها وأخطائها في لبنان. لو أن قوى الثورة الفلسطينيّة استفادت من تجربة عمّان لما كانت قد انتهجت إلّا العمل الثوري السرّي تحت الأرض، خصوصاً أن القوى المعادية للثورة (مخابرات العدوّ ومخابرات الجيش اللبناني ومخابرات النظام الأردني تحديداً) كانت تستفيد من علنيّة العمل الفلسطيني في لبنان من أجل اختراقه وتخريبه وقتله.
لو أن العبرة من الأردن كانت قد استُلّت، لما كان العمل الفلسطيني في لبنان قد اتخذ أشكال العلنيّة، ولما كانت قيادة «الثورة» مستهترة بالحفاظ على العلاقات الطيّبة مع الشعب اللبناني. لكن المؤامرة ضد «الثورة» كانت كبيرة، وكان من الصعوبة بمكان مواجهتها فقط في تجنّب أخطاء الأردن. كان لبنان يعجّ بقوى رجعيّة مسلّحة (رسميّة وغير رسميّة) متحالفة مع العدوّ الإسرائيلي. قد تكون منظمّة التحرير والحركة الوطنيّة اللبنانيّة قد أخطأت في الحفاظ على وضع ديموقراطي في بيروت الغربيّة (خلافاً للنظام الأمني الفاشي الذي فرضه بشير الجميّل في المنطقة الشرقيّة من بيروت). كان انتقاد بشير الجميّل في الشرقيّة ممنوعاً على الجميع، فيما كانت القوى الإسلاميّة (السنيّة والشيعيّة) التقليديّة في بيروت الغربيّة تحرّض وتعبّئ ضد المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة ليل نهار (تجمّعت هذه القوى في «التجمّع الإسلامي» و«جبهة المحافظة على الجنوب» و«المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى»). وهذه القوى الرجعيّة أفشلت مشروع الإدارة المدنيّة الذي كانت الحركة الوطنيّة تريد تطبيقه في مناطق نفوذها. سمحت قيادة المنظمّة والحركة الوطنيّة اللبنانيّة بحصان طروادة رجعي ينمو في جسم الشعب اللبناني، وهذا سهّل خداعه بشعارات كاذبة عن خطة فلسطينية (غير موجودة) للتوطين في لبنان.
طرحت «الجبهة الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» مشروعاً ثوريّاً كبيراً في طموحه: أراد الراحل جورج حبش أن يثوّر الوضع العربي برمّته. شعار «هانوي عربيّة» أقلق راحة كل القوى الرجعيّة التي أرادت أن تقضي على الحركة الواعدة في طفولتها (يروي عبدالله سعادة في «أوراق قوميّة» أن شارل حلو اعترف لوفد قومي بأن النظام اللبناني لم يفرج عن المساجين القوميّين في لبنان إلا لتفليتهم ضد اليسار (ص. ٢١٥)، مع جهل هذا النظام أن الحزب كان قد جنح يساراً في تجربة السجن). لكن العمل الثوري الذي طرحته الجبهة كان يحتاج إلى ثنائيّة وديع حدّاد ـ جورج حبش. هذه الثنائيّة لم يُقدّر لها أن تستمرّ. كان هناك محاولات مشبوهة لضربها مبكّراً. كان وليد قدّورة (القيادي في الجبهة الذي سُجن بعدما افتضح أمر تخابره مع المخابرات اللبنانيّة — والذي أصبح بعد تهريبه من السجن في عام ١٩٨٢ صحافيّاً في إعلام دولة الإمارات) وأبو أحمد يونس (الذي أُعدم في لبنان بسبب تشكيله عصابة إجراميّة في داخل الجبهة أثناء تسلّمه منصب مسؤول «الأمن» في الجبهة) وأبو شهاب (المرتبط بالمخابرات العراقيّة) يحرّضون ضد وديع حدّاد ويشكّكون بالتزامه الماركسي. وخلافاً لما يُظن، كان جورج حبش ديموقراطيّاً في داخل الجبهة. لو لم يكن حبش ديموقراطيّاً ولم لم يكن يخضع لمشيئة غيره، هل كان يمكن أن يقبل بفصل وديع حدّاد في عام ١٩٧٢؟ لكن كيف كان يمكن للجبهة أن تثوّر الوضع العربي برمّته من دون وديع حدّاد؟ على مَن تعتمد في ذلك؟ على أبو أحمد يونس أو تيسير قبّعة؟ كان حدّاد ركناً لا غنى عنه، في مشروع تثوير الوضع العربي، وانفصال حدّاد عن الجبهة حرمه من قاعدة تنظيميّة جماهيريّة كان يمكن أن يستفيد منها بدلاً من تجنيد أجانب أساء بعضهم (كما أساء محليّون) للثورة.
تناقض مشروع الثورة الفلسطينيّة مع الارتباط بالاتحاد السوفياتي. ويمكن رصد شعارات وعقيدة الجبهة قبل ارتباطها بموسكو وبعد ارتباطها. كان أندروبوف (الذي أشرف على وضع المنظمّات الفلسطينيّة) ينصح قادة المقاومة دوماً بأن يعزلوا المتطرّفين (فيما يقول بعض قادة الجبهة الذين تواصلوا مع وديع حدّاد عبر السنوات أن أندروبوف نفسه كان يُشجّع حدّاد على أعماله). في كلا الحالات، إن تحوّل كل الفصائل الفلسطينيّة الماركسيّة باتجاه موال للاتحاد السوفياتي (والابتعاد عن النهج الصيني، مثلاً) حرم هذه التنظيمات من إمكانيّة اللعب على تناقض الشقاق الصيني ـ السوفياتي ومن الاستفادة من التنافس بينهما. لم يكن الاتحاد السوفياتي في وارد السماح بتنظيمات شيوعيّة بانتهاج الثوريّة ممارسة أو فكراً لأن ذلك يتناقض مع السياسات السوفياتيّة في العالم العربي، كما أنه يتناقض مع التحالفات التي كان الاتحاد السوفياتي يعقدها مع أنظمة عربيّة تقدميّة (بالاسم) أو رجعيّة. والخيار السوفياتي لم يكن يوماً في وارد تحقيق تحرير كل فلسطين، أو الحيْد عن حلّ الدويلة الفلسطينيّة المسخ.
كان هناك فرصة ثوريّة حلّت في لبنان في مطلع عام ١٩٧٦، عندما كانت القوى الفلسطينيّة واللبنانيّة تتقدّم نحو بيروت الشرقيّة وكانت جونية (المرفأ الذي احتضن السفن الاسرائيليّة المحمّلة بالسلاح والدمار) في مرمى مدفعيّة جيش لبنان العربي. هذه الفرصة أجهضت من قبل التحالف الإسرائيلي ــ الأميركي ومن قبل تحالف النظام السوري والأردني (وحكماً النظام الخليجي) ومن قبل قيادة كمال جنبلاط وياسر عرفات. العدوّ الإسرائيلي لم يكن في وارد السماح بإقامة «هانوي عربيّة» على حدوده. لكن لو أن القوى التقدميّة تقدّمت ولو أن ياسر عرفات أمدّ القوى الوطنيّة بما كانت تحتاج إليه من سلاح وعتاد، كان يمكن تحقيق ذلك، وفرضه بالقوّة، كما فعل «حزب الله» الذي نشر نفوذه في الجنوب اللبناني عبر السنوات رغم أنف العدوّ الإسرائيلي لكنه فعل ذلك عبر إقامة علاقات قويّة مع الجمهور الجنوبي.
لم يحمل نظام عربي مشروع الثورة العربيّة. طبعاً، لا نستهين بحقيقة «الثورة الجزائريّة» أو حتى «الثورة المصريّة» التي قلبت ميزان القوى الطبقي في مصر، والتي أحدثت ثورة في العلاقات الاجتماعيّة وعلاقات الملكيّة (وإن كان أفق الثورة الطبقيّة محدوداً). والثورة الفلسطينيّة سيطرت على بقعة من الأرض مرتيْن، لكنها في المرتيْن انسحبت مرغمة تحت وطأة مؤامرة عربيّة ـ إسرائيليّة ـ أميركيّة. لا تستعاد التجارب الثوريّة، ولا يُعيد الحنين تحقيق منجزات ثوريّة. لكن دراسة تجربة إجهاض مشروع الثورة يفيد في إمكانيّة بروز حركات ثوريّة فلسطينيّة جديدة. والعبرة من مرور قرن طويل من الزمن على وعد «بلفور» هي في أن الشعب الفلسطيني شعب خلاّق في ثوريّته ومقاومته، وهو قادر أن يجترح وسائل وسبل مقاومة جديدة ومبتكرة في كل مرحلة — برغم الصعاب.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)