لسنوات، تابع هادي زكاك (1974) جدّته هنرييت في شيخوختها وفي تخطّيها المئة عام. تجربة تطوّرت تدريجاً لتصبح فيلماً عن الذاكرة والهجرة والشيخوخة، تتداخل فيه اللحظات الحنونة المؤثرة والمواقف الطريفة.
يعود حبّ زكاك للسينما وتعلّقه بها الى أيام نشأته خلال الحرب. كان الفن السابع آنذاك هروباً من الحرب ومحاولة لفهمها أيضاً. وهذه الأمور انعكست لاحقاً في الأفلام التي أنجزها. كانت تسمح له بالتعبير عبر الصورة والصوت عن أشياء لم يكن ليعبّر عنها بالطريقة نفسها في المجتمع، فجاءت بمثابة علاج. أخرج زكاك أكثر من 20 فيلماً وثائقياً أبرزها «درس في التاريخ» (2009) و«مارسيديس» (2011) و«كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة» (2015) وغيرها. عن خياره العمل في المجال الوثائقي، قال زكاك خلال مقابلة: «اتجهت تدريجاً نحو الوثائقي. مؤكد أنّ الروائي هو أول ما يطمح إليه أي شخص يحلم بالسينما. لكن في الوقت عينه، كنت مهتماً بالتاريخ والسياسة. ووجدت أن الوثائقي كان يجسّد اهتماماتي كلّها. كما أنه حقل اختبار واسع. وشعرت أن بإمكاني الحفاظ على ذاكرة هي في الكثير من الأوقات منسية وممحوة. فضلاً عن ذلك، مشروع إعادة الإعمار ومحو الأبنية القديمة كان قيد التطوّر في حين كنت أكبر. كانت السينما الوثائقية وسيلة لمحاربة محو الذاكرة». من ناحية أخرى، لا يعتبر زكاك الوثائقي محطة في حياته المهنية: «هو مكان يشبهني وأختبر فيه. ولا أشعر أنه أقل قيمة من الروائي، ولدي الكثير لأنجزه فيه بعد وأختبره». هو يجد في لبنان مادة هائلة للوثائقي: «الحال اللبنانية انتشرت عربياً. هناك نوع من الحالة اللبنانية – العربية، التي هي مادة خصبة جداً».
يعود زكاك في «يا عمري» للعمل مع مديرة التصوير موريال أبو الروس والمؤلف الموسيقي إميل عواد وغيرهما ممن باتوا عائلته السينمائية كما يصفها: «في العمل السينمائي كما في الحياة، هناك عائلة تتكون من الافراد أنفسهم تقريباً. وهم الذين أعمل معهم منذ أكثر من عشر سنوات. يُضاف إليهم أفراد آخرون أتوا لتكبير هذه العائلة. وعندما تؤسَّس هذه العائلة، يصبح التواصل أسرع ضمن فريق العمل ومجال الاختبار أفضل».
بدأ زكاك يصوّر جدّته منذ فترة طويلة، خوفاً على فقدانها، وحفاظاً على ذاكرتها صورة وصوتاً كما يقول، مضيفاً: «عندما تعدّت المئة عام، ولاحظت أن ذاكرتها بدأت تزول بسرعة هائلة، وجدت أن الوقت حان ليكون مشروع فيلم شرعي. ومن هنا بدأت أصوّر على مراحل امتدت على سنوات عدة، لأجمع العناصر كلها التي تصنع فيلماً».

الجدّة الطريفة تسترجع
الحقبة التاريخية التي
حضنت أحداث حياتها


كان المخرج بحاجة إلى وقت لكي يدخل في موضوع شخصي إلى هذا الحد. لم يسبق له في أفلامه الأخرى أن دخل في خصوصياته، رغم عمله على بعض التجارب التي تحمل طابعاً مشابهاً. ويوضح في هذا الصدد: «رأيت أنني أصبحت في عمر يسمح لي بالتطرق الى أمور تمسّ الحياة بشكل عام. أصبحت أراها من زاوية مختلفة».
الخلفية السياسية للأحداث وتأثر الخاص بالوضع العام يعودان أيضاً في «يا عمري». الجدّة الطريفة تعود في ذكرياتها الى الحقبة التاريخية التي حضنت أحداث حياتها وهجرتها من البرازيل. «هناك دائماً الخلفية السياسة المرافقة في أفلامي، سواء تعلّق الأمر بقصة سيارة (كما في «مارسيدس») أو بكمال جنبلاط (فيلمه السابق). الفرق هنا أن الظروف السياسية أصبحت أقل أهمية مقابل حضور الشخصية وأمورها الحياتية، خصوصاً أنّ هذه الشخصية ليست على احتكاك مباشر مع كل الأحداث التاريخية كما كانت حال سيارة المرسيدس أو كمال جنبلاط. أردت أن أكون مخلصاً للشخصية الأساسية، برغم من اهتماماتي، وأن أذهب أنا إليها بدلاً من أن أجعلها تأتي إليّ».
رأى زكاك منذ البداية أن جدّته تملك المقومات لتكون شخصية فيلم: «في الوثائقي، هناك في الوقت عينه غياب للـ «كاستينغ» ووجود له. لذا تمسّكت بجدّتي التي تصلح لأن تكون شخصية عمل سينمائي. كانت تتمتع بروح الفكاهة ورغبة قوية في الحياة، وهذا ما ساعدها في أن تعيش كل هذا العمر». ويضيف من جهة أخرى: «الفيلم يغوص في عالمها وفي ما تراه هي. وما يمكنها أن تراه مع تطور الوقت. هناك أيضاً تطور النظام التصويري. فالفيلم صُور بكافة أنواع الفيديو وصولاً الى الـ «إيتش دي» اليوم. حتى صورته تتحول مع الزمن».
يولي العمل اهتماماً بالغاً بالتفاصيل، فتحدّق الكاميرا مطوّلاً بتجاعيد الجدة التي رسمتها السنوات والتجارب كما يوحي العنوانان الإنكليزي والفرنسي للفيلم «104 تجعيدة» إذا ترجمناهما بطريقة حرفية. يقول المخرج حول هذا الموضوع: «احتجت إلى وقت طويل لتكوين المادة وتركيبها، كما لو أنه بازل داخلي مرتبط بالذاكرة. أحياناً تتذكر، وأحياناً أخرى تنسى. وهناك تفاصيل في الذكريات المتبقية شبيهة بالتجاعيد».
بما أن زكاك اختار هذه المرة الغوص في موضوع خاص جداً، لم يكن سهلاً عليه العمل على هذا الفيلم: «مهما تقدّم الشخص في العمر، يبقى الأمر صعباً. ليست عملية بورصة أو رقم. أهمية الشخص تبقى وجدانياً. أخذت بعض الوقت قبل أن أباشر العمل على هذه المادة، خصوصاً أنني كنت أعمل على فيلم كمال جنبلاط آنذاك. كنت بحاجة الى بعض المسافة قبل العودة الى المواد المصورة. وكان التحدي عبر عملية المونتاج. كانت تعيش وتموت يومياً وأنا كذلك. في المقابل، هناك أيضاً خلال العرض جزء من الشخص يصبح علناً. كأنني فتحت باب بيتي للكثير من الناس. مع ذلك، وفي الوقت عينه، هذه الأمور الشخصية مستخدمة لجعلنا نفكر بما هو أوسع. لست هنا لأتحدث عن فرد من عائلتي، بل عن موضوع أكثر شمولية. على الجميع أن يشعر أنه معني. هذا هو الهدف. في النهاية هي جدتي وجدة الجميع».

«يا عمري»: بدءاً من 30 آذار (مارس) حتى 19 نيسان (أبريل) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الاشرفية) ـ للاستعلام: 01/204080