في الوقت الذي بدأت فيه الصحف الأوروبية المساهمة في العملية التعلميّة ونشر لغاتها الوطنية، نحن لا زلنا نفكر في إعداد خطط لترميم واقع لغتنا في مؤسساتنا التعليمية، ونتعاطى مع مواردنا البشرية والتربوية والتقنية وطاقاتنا بازدراء، ونعوّل على تمويلات وخطط وبرامج الدول المانحة لعجز مسؤولينا عن رسم خطط وطنية وسياسات نعلم مسبقاً أن صراعات المحاصصة ستحول دون استكمالها.
صحيفتا "لوفيغارو" و"لو موند" الفرنسيتان أدخلتا على مواقعهما مصرّفاً للأفعال (متعدد اللغات: فرنسية، إسبانية، إنكليزية، ألمانية) وربما صحف أوروبيّة أخرى في لغات مختلفة، معتبرة أنّ نشره كمعجم تصريفي مفتوح يعزز لغاتهم الوطنية، وبطبيعة الحال يزيد من عدد الرواد على صفحاتهم الإلكترونية. ولفتنا ما قدمته "لو فيغارو" في موقعها إلى جانب برنامج التصريف حيث ضمّ في صفحاته الفرعية مجموعة من التمارين والألعاب اللغويّة والقواعد العامة للغة الفرنسية، ما يعزز ريادة المتعلمين للغة الفرنسية وغيرهم إلى موقع الصحيفة ويعزز اكتسابهم اللغوي.
في لبنان، الأمر ليس سهلاً بسبب السياسات التربوية غير الواضحة، كما أن البحث في موارد تعلّمية للغة العربية غير فعّال وآليّة تطوير وسائل تفاعلها ضعيف ومقاربة الوسائط التكنولوجية في التعليم وتطوير تطبيقات تعلمية غير مكتملة. لكن النيّة موجودة وبدت واضحة في محاولة معالجة تدنّي نتائج اللغة العربية في الامتحانات الرسمية للسنوات السابقة وتوصيات مؤتمر "كلنا للعِلم" العام الماضي لإعداد خطة طوارئ لتعليم اللغة العربية، إلا أن آلياتها غير المكتملة لم تحلّ المشكلة والتي لم تغيّر الواقع بشيء.
معالجة هذه الثغرة التعلمية في اللغة العربية تستحق بذل جهد ومال لترسيخ معرفة مكتسبة حولها بشكل تفاعلي حديث، فإدخال التكنولوجيا إلى الصفوف ليس محصوراً بتجهيز الصفّ بلوح تفاعلي بل بآليات ومتطلبات مرافقة كتدريب الأساتذة، تأمين الموارد، حتى أبسط المتطلبات وهو تعتيم الصفّ بما يسمح برؤية أوضح للوح التفاعلي.
في السنة الماضية أطلقت "دال" للموارد والتطبيقات الرقمية للغة العربية مصرّفاً للأفعال العربية تلاه مؤخراً "مدقّق "دال" الإملائي، وهما نتاج مورد رقمي للغة العربية، ما يستطيع أن يقدمه المورد ليس محصوراً في معجم تصريف الأفعال العربية والمدقّق الإملائي، وعملية التثمير تتعدى بكثير تصفح معجم للبحث عن تصريف فعل ما إلى مجموعة من التطبيقات التعلمية تطال توليد الأسماء وجموع التكسير والتشكيل المُعجمي وغيرها من التطبيقات غير التعليمية كمحركات البحث والتدقيق الاحترافي لدور النشر والصحف وتقارير المؤسسات.
ما يتميّز به مورد "دال" هو الإمكانيات التفاعلية التي يحويها هذا المورد، فينتج المادة الأساس لعدد غير محدد من التطبيقات والتي يمكن وضعها بأشكال مختلفة كالتمارين الصفية والفروض المنزلية والألعاب التعليمية والامتحان وكأداة تقييم وغيره، وهو قابل للاستخدام عبر أي جهاز موصول بالشبكة العنكبوتية.
لكن تكمن المشكلة في وضع هذا المورد وتطبيقاته المتعددة حيّز التنفيذ والتطبيق في بلد حيث نواجه ضعفاً في الخطط التطويرية والوسائط والموارد التعليمية للغة العربية لتنعش بعض المبادرات الفردية أو الخاصة والمميزة لمواقع تفاعلية مثل "أصحابنا" و"كم كلمة" أو مورد "دال" للغة العربية وغيرها، والتي لم تدفع القيمين على السياسات التربوية الى استنباط مشروع تعليمي على مستوى الوطن للنهوض بتعليم اللغة العربية وتحديث وسائل التنشيط الصفّي وتطوير مناهجها بما يتلاءم والحاجات، فخرجت المعالجة الرسمية بإضافة حصتين أسبوعياً للتلامذة المتعثرين في اللغة العربية وليس بتطوير وسائط التعليم والموارد وتفاعل التلامذة مع الحداثة كمثيلاتها الأجنبية. كما أن المبادرات الخاصة هذه لم تتضافر لتنتج مجتمعة برنامجاً متكاملاً لتعليم العربية.
ما هي كلفة موقع لغوي مشابه لجريدة "لوفيغارو" ولماذا تستطيع صحيفة تغطية تكلفة موقعها اللغوي ولا تستطيع وزارة لبنانية ذلك؟ ربما السبب غياب ميزانية مخصصة لتطوير التعليم، مع أنه من السهل في أيامنا هذه تأمين تمويل من جهات مانحة عدة لأهداف تعليمية. برأينا، هذا ليس السبب، بل غياب رؤية وسياسة تربوية واضحة تجعل من التعليم الرسمي سباقاً في إنتاج الوسائط والموارد التعليمية من خلال المؤسسات التربوية ومكوناتها من المركز التربوي للبحوث والإنماء إلى كلية التربية والأساتذة والمعلمين والمعلمات أنفسهم حيث تتوفر الطاقات الإبداعية والمعرفية والتي وإن تكاملت مع المبادرات الفردية لأنتجت ما ينقلنا من واقعنا إلى الريادة.
*باحث في التربية والفنون