في كلّ مرّة يجرى فيها تشريع بكالوريا أجنبية وخلق مسارات تعليمية على هامش شهادة الثانوية العامة اللبنانية، يُطرح السؤال: كيف تستسهل الدولة تبنّي خيار عدم إخضاع طلاب لبنانيين يدرسون على الأرض اللبنانية للمنهج الرسمي اللبناني، وهل الإقرار بأن رتابة المواد التي تدرس في المنهج حالياً وعدم محاكاتها لمهارات التفكير النقدي والبحثي وتنظيم التعلم الذاتي (أن يكون الطالب مسؤولاً عن تعلّمه وليس متلقّياً)، يبرر غياب أي رؤية لدى السلطات اللبنانية لتطوير النظام التعليمي واستمرار التخلي عن مسؤولية إصلاح المناهج وأنماط التعليم وأنظمة التقويم أو الامتحانات؟
الاعتداد بالشهادة الرسمية

لجنة التربية النيابية التي صدّقت أخيراً اقتراح قانون معادلة شهادة البكالوريا الدولية بالبكالوريا اللبنانية وضعت أسباباً موجبة لإقرار المعادلة، وهي أن البكالوريا الدولية ممنوحة من منظمة دولية ولا تتبع لأي بلد ومعتمدة في أكثر من 120 بلداً، في حين أن مضمون المنهج المعتمد في هذه الشهادة يساعد في بناء هوية ثقافية متنوعة تحترم القيم الإنسانية العالمية من جهة وخصوصية ومصالح البلد من جهة ثانية، ولا يتعارض مع أهداف التعليم في لبنان.
هذا الإقرار ترك لدى بعض الأوساط التربوية والنقابية علامات استفهام بشأن استقالة الدولة من دورها الرقابي على التعليم. يرى جورج سعادة، أستاذ في التعليم الثانوي الرسمي وقيادي في التيار النقابي المستقل، أنّ الاعتداد بالشهادة الرسمية واجب وطني، وعدم الاشتراط أن يكون المقيم على الأرض اللبنانية حائزاً الشهادة الرسمية اللبنانية هو ضرب لرمز من رموز السيادة، تماماً كما لو أنك تستبدل العلم اللبناني بعلم آخر والنشيد الوطني بنشيد بلد آخر. ويلفت إلى أن بناء شخصية المواطن العالمي تنطلق حتماً من بناء الشخصية الوطنية. ويسأل: «هل تستبدل الدولة تخلفها عن تعديل المناهج وتطوير الشهادة اللبنانية على مدى 20 عاماً بالهروب إلى البكالوريات الأجنبية؟ وإذا كان الهدف من هذا التشريع هو إتاحة الفرصة لبناء متعلم باحث وصاحب تفكير نقدي فهل سيستفيد منه جميع التلامذة اللبنانيين في المدارس الرسمية أم الميسورين في المدارس الخاصة فحسب؟ وكيف يخرق المسؤولون السياسيون مبدأ تكافؤ الفرص ويوافقون على أن تبقى شريحة كبيرة من المواطنين خارج التطوير المطلوب؟».

مرونة البكالوريا الدولية

الباحث التربوي والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت رؤوف الغصيني يجيب على تحفظين يثيرهما تشريع الشهادة الأجنبية: الأول: منافسة دبلوم البكالوريا الدولية للبكالوريا اللبنانية، وغربة الطالب عن ثقافة بلده وتاريخه وجغرافيته وتربيته الوطنية. فهذه البكالوريا تنتمي، بحسب الغصيني، إلى منظمة دولية منطلقها أوروبي لكن بات معترف بها في الولايات المتحدة وعدد من دول آسيا وأفريقيا، ولا تنتقص من قيمة الشهادة الرسمية اللبنانية».

تستطيع المدارس
والحكومات اقتراح مواد معينة تضاف إلى المنهج العام


أما التحفظ الثاني فلا مكان له، بحسب الغصيني، في البكالوريا الدولية لكون هذا الدبلوم لديه من المرونة ما يكفي للإجازة للمدارس والحكومات اقتراح مواد معينة ضمن الإطار العام للمنهج. فمن الممكن مثلاً، التعاون مع المنظمة الدولية في إعداد مساق في التاريخ يشمل تاريخ لبنان والبلدان العربية وأوروبا.
يُعرب الغصيني عن اعتقاده بأنّ المعادلة، وإن أقرت في المجلس النيابي، لن تؤدي في المدى القريب على الأقل إلى اعتمادها من قبل عددٍ كبير من المدارس بسبب شروط الانتساب وتكاليف البرنامج الباهظة، لكن سوف تفسح في المجال لبعض المدارس لوضع برنامج الدبلوم في تصرف الطلاب اللبنانيين الراغبين في الانتساب إليه وتعريف الأساتذة بهذا البرنامج وفلسفته وأساليبه التعليمية ومقارنته ببرنامج البكالوريا اللبنانية والعمل على الجمع بين الخصائص الإيجابية في كلا البرنامجين.

ما هي البكالوريا الدولية؟

منهج دبلوم البكالوريا الدولية انطلق من إنكلترا في عام 1968 ليغطي السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية، وهو مطبق في أكثر من 3 آلاف مدرسة في العالم. في لبنان، تبنت نحو 9 مدارس خاصة حتى الآن هذا البرنامج الذي يمنح الطالب الشهادة لدى نجاحه في امتحانات رسمية تجريها منظمة البكالوريا الدولية، في وقت واحد، في أيار لمدارس نصف الكرة الشمالي، وفي تشرين الثاني لمدارس نصف الكرة الجنوبي، فيما مقاييس التصحيح المعتمدة هي نفسها في المدارس كافة. يجيز الدبلوم لحامله التقدم للانتساب إلى الجامعات العالمية مثل السوربون وأوكسفورد وكامبريدج وغيرها، فيما تقبل الجامعات اللبنانية حالياً هذا الدبلوم لأنه معادل رسمياً للبكالوريا اللبنانية بالنسبة إلى الطلاب الذين يحملون جواز سفر أجنبياً والطلاب اللبنانيين الذين درسوا خارج لبنان لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات. أما حكومات الأردن ومصر ودول الخليج وإيران فتعترف بالدبلوم معادلاً لشهادتها الثانوية الرسمية للجميع.
ميزة المنهج، بحسب الغصيني، أنّه يتصف بالشمولية والتوازن والعمق. فمن حيث الشمولية، يتطلب المنهج دراسة مادة على الأقل من كل من حقول المعرفة الكبرى، اللغات (الأجنبية أو العربية)، العلوم الاجتماعية والإنسانية (التاريخ أو الجغرافيا أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الفلسفة أو علم النفس أو مواد أخرى)، العلوم الاختبارية ـ الطبيعية (الفيزياء أو الكيمياء أو علوم الحياة أو مواد أخرى)، الرياضيات (أربعة خيارات)، الفنون أو مادة إضافية من أحد الحقول المذكورة (الرسم أو المسرح أو الموسيقى أو السينما أو مواد أخرى). ويتضمن مقرراً خاصاً باسم «نظرية المعرفة» لتأمين الترابط بين المعارف المتنوعة التي يكتسبها الطلاب في أثناء الدراسة.
المنهج متوازن أيضاً، كما يقول الغصيني، لكونه يوازن بين الحقول الستة من دون تثقيل أحدها، إلّا إذا شاء الطالب أن ينحو نحو اختصاص معين علمي أو لغوي أو «إنساني». والمنهج يوفر التعمق إذ يدفع الطالب نحو دراسة ثلاث مواد أو أربع على المستوى العالي أو المتقدم، ما يبني جسراً مع المرحلة الجامعية. كما أن المقالة البحثية المطوّلة الملزمة لكل طالب تضمن التعمق في أحد المواضيع وتنمي مهارات البحث والتحليل والتأليف. ويشتمل المنهج أيضاً على مادة معروفة بعنوان مختصر CAS مشتق من العنوان الكامل: Creativity,Action,Service أي إبداع، عمل وخدمة اجتماعية بهدف تنمية الطاقات الإبداعية عبر أنشطة موسيقية ومسرحية ورياضية وكشفية وتنمية الالتزام بخدمة المجتمع.
وتضع منظمة البكالوريا الدولية مخططات الدروس مرفقة بأدلة المعلمين وأساليب التعليم وأنواع أسئلة الامتحانات إلى جانب المحتوى الذي لا يختلف كثيراً عن محتوى المنهج اللبناني، والفرق يكمن في الطرائق بصورة خاصة. بحسب الغصيني، يتميز المنهج بالقدرة على التوفيق بين الإلزام والاختيار في صياغة المناهج، فهو من جهة يلزم الطلاب بدراسة حقول المعرفة الكبرى ومن جهة أخرى يترك لهم مجال اختيار المادة التي يرغبون في دراستها في كل حقل. وقد يقع اختيار الطالب على «مزيج» من المواد العلمية والاجتماعية مما لا يتوافر في المناهج اللبنانية التي تقصر الاختيار على الشُعب بأكملها وتلزم الطالب بالمحتويات كلها، أو ما يسميه الغصيني «نظرية السكك التربوية».

الأهالي بين مشجع وحذر

يتحمس نزار رمال لإقرار المعادلة كي يتسنى لولديه الالتحاق بالبكالوريا الدولية والابتعاد عن ثقل المنهج اللبناني «حيث الطريقة التلقينية تطغى على أي طريقة تربوية أخرى لا سيما الأبحاث والاكتشاف والتعلم الذاتي والمشاركة في وضع الهدف». ويرى أن لا قيمة للمنهج اللبناني الحالي، متسائلاً: «لماذا لا ينسحب الكلام على خرق السيادة على البكالوريا الفرنسية والاختبارات لدخول الجامعات التي تعتمد النظام الأميركي مثل الـSAT و الـTOFFEL؟ وهل حفظ الثقافة الوطنية يكون بتدريس مواد حقوق الإنسان والمواطنية بواسطة التسطير (وضع خط تحت الجمل المطلوبة للحفظ)؟».
أما محمد خالد الذي يدرس أولاده في المدرسة نفسها سيتردد في اختيار البكالوريا الدولية حتى لو أقرت المعادلة غداً. يقول: «قد اختار لأولادي البكالوريا اللبنانية ربما للتعويض عن خطأ ارتكبته حين دفعتهم للتركيز على اللغات الأجنبية وإهمال اللغة العربية، معرباً عن حذره من شعورهم بالغربة عن وطنهم إذ سنخسر قصة التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية فيما لو اخترنا البكالوريا الدولية». لا ينفي خالد أن تكون إيجابيات المعادلة قطع الطريق على مافيا الدروس الخصوصية في اللغة العربية وتأمين انتساب الطلاب إلى النقابات دون الحاجة إلى المرور على البكالوريا اللبنانية.

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]