في صباح يوم 30 أيلول 2010، وقف رئيس الإكوادور رافاييل كوريا، أمام عناصر القوى الأمنية التي تمردت عليه وانتزع ربطة عنقه بعنف وصاح: «اذا كنتم تريدون قتل الرئيس فهو هنا، اقتلوه إذا أردتم! أنا هنا، اقتلوني إذا لديكم الشجاعة».
انتهى ذلك الخطاب بدخول كوريا المستشفى، بعدما أطلق أحد عناصر «التمرّد» قنبلة مسيلة للدموع عليه، وحاصره في غرفته «المتمردون» الذين كانوا قد حاصروا المبنى.
في تلك اللحظات، لم يكن يواجه السياسي الاشتراكي الشاب، الذي استطاع أن يصل إلى السلطة للمرة الأولى في 2006 بفوزه على أغنى رجل في البلاد من دون أن يحظى بأي دعم من حزب سياسي، بضعة رجال أمن أغضبهم قرار إلغاء علاوات الأقدمية، بل كان يواجه القوى الرأسمالية المحلية أيضاً التي لم يتردد يوماً في انتقادها والتصدي إلى أدواتها.
على الشاشات، قامت وحدة من القوات المسلحة بـ«تحرير» الرئيس وسط تبادل لإطلاق النار بين الجيش والشرطة، في مشهد مسرحي جعل ذلك البلد الصغير البالغ عدد سكانه 15 مليوناً على الساحل الغربي لأميركا الجنوبية محط أنظار العالم كله. ولكن في الواقع، الجماهير الغاضبة التي ملأت الشوارع هي من «أنقذت» الرئيس «الأكثر شعبية في تاريخ البلاد». من شرفة القصر الرئاسي، أطل كوريا على بحر من المناصرين والرايات الخضراء وأكّد أنه مستعد لأن يموت من أجل الثورة.
لعلّ محاولة الانقلاب هذه تختصر المشهد السياسي الإكوادوري الذي رسمه الابن الروحي للثورة الكوبية طوال عشر سنوات من الحكم، استطاع في خلالها، رغم كل الضغوط والعراقيل، أن يحسّن الوضع الاقتصادي ويُعيد الاستقرار السياسي إلى «بلد الانقلابات».
ولد كوريا في غواياكيل جنوبي الإكوادور، وحصل على بكالوريوس الاقتصاد من «الجامعة الكاثوليكية» في 1987. علّم الرياضيات لمدة عام في مقاطعة كوتوباكسي، حيث عاش وسط قبيلة «كيشوا» وتعلّم لغتهم. اليوم، بعد أكثر من 30 عاماً، ربما أمكننا القول إن هؤلاء السكّان الأصليين هم من زرع الروح الثورية لدى الزعيم الاشتراكي.
حصل كوريا على ماجستير في الاقتصاد من «جامعة لوفان الكاثوليكية» في بلجيكا و«جامعة إلينوي» في الولايات المتحدة، ومن ثمّ على الدكتوراه، بين 1991 و2001. في 2005، دخل المعترك السياسي كوزير للمالية في عهد الرئيس ألفريدو بالاسيو، الذي سرعان ما اكتشف أن الرجل الأنيق والهادئ الذي اعتقد أنه «أميركي قلباً وقالباً»، هو في الحقيقة من أشد النقّاد للنظام الرأسمالي. استقال كوريا بعد أربعة أشهر على رأس الوزارة، استطاع في خلالها عرض أفكار اشتراكية بهدف الحد من الفقر والاستغلال الاقتصادي، والتشكيك باتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وزيادة التعاون مع أميركا اللاتينية، وانتقاد صندوق النقد العالمي والبنك الدولي، الذي تراجع عن موافقته في منح الإكوادور قرضاً كبيراً كانت تعتمد عليه. دخل كوريا الوزارة كاقتصادي وخرج منها «بطلاً قومياً»، إذ أطلق من خلال خطاب استقالته، الذي قال فيه إن الرئيس «يفضّل الشركات على الكادحين، ويفضّل القطاع الخاص على القطاع العام»، شرارة حملة رئاسية أثبتت في أواخر 2006، وفي 2009 إثر انتخابات مبكرة، ومجدداً في 2013، أنها حقّاً «ثورة المواطنين».

منذ لحظة تسلمه
الحكم، قلب كوريا سياسة
بلاده رأساً على عقب

فور انتخابه، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن لسان أستاذ الرئيس الجديد في «جامعة إلينوي»، ويرنر باير، قوله إن كوريا، الذي يصف نفسه بأنه «إنساني، ومسيحي، واشتراكي»، كان يقول إنه «رغم نفاق السياسيين، فإن نفاق وطمع الرأسماليين أكبر».
وفي خطوة «صادمة» في 2008، أعلن صاحب عبارة «اشتراكية القرن الحادي والعشرين» أن الديون الوطنية للإكوادور «غير شرعية» إذ إنها أبرمتها «أنظمة سابقة مرتشية ومستبدة»، مواجهاً الدائنين في المحاكم الدولية، إلى أن نجح في تقليص كلفة الدين.
وقام كوريا، الذي شغل أيضاً منصب الرئيس المؤقت لاتحاد دول أميركا الجنوبية، بتقييد مكاسب شركات النفط الأجنبية، بعدما قامت حكومته تعديل عقودها مع هذه الشركات، ليصبح اقتصاد البلاد هو المستفيد الأول من إيرادات الثروات النفطية، التي أنفقها على البرامج الاجتماعية والتنموية بدل تسديد الديون الخارجية.
منذ لحظة تسلمه الحكم، قلب كوريا سياسة بلاده رأساً على عقب، ولا سيما العلاقة مع واشنطن. فالرئيس اليساري، الذي وصف الرئيس الأميركي جورج بوش بأنّه «فائق الغباء»، أعلن إغلاق القاعدة الجوية الأميركية في مرفأ مانتا، التي كانت لها قدرة مراقبة جوية تبلغ 400 كيلومتر مربع. لم يتردد الرئيس الجريء في رفع راية «مناهضة الإمبريالية الأميركية»، حتى أنه في عام 2007، ردًاً على مقارنة الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز لبوش بـ«الشيطان»، قال: «هذا ظلم للشيطان».
وفي ما وُصف بمحاولة واشنطن للانتقام، قام الجيش الكولومبي (حليف الولايات المتحدة الوثيق) في 2008 بانتهاك الأراضي الإكوادورية وقتل عدداً من القوات الكولومبية، وبعد عام فقط، وقّعت كولومبيا على اتفاقية تسمح للجيش الأميركي بإقامة قواعد عسكرية جديدة على أراضيها. وفي العام نفسه، انضم الإكوادور إلى «الحلف البوليفاري لشعوب أميركتنا»، وبدأ كوريا، الذي أصبح معروفاً كحليف فنزويلا وكوبا، بتقوية علاقاته مع إيران والصين.
وعلى الرغم من تأكيد واشنطن «دعمها» للرئيس، فإن الأخير لمّح إلى وجود دور أميركي وراء محاولة الانقلاب في 2010، وهو العام الذي أصبح فيه الإكوادور رابع دولة لاتينية تعترف رسمياً بفلسطين دولةً حرة ومستقلة ضمن حدود عام 1967.
تتهمه المعارضة بـ«الديكتاتورية والاستبداد» وقمع وسائل الإعلام. لكن في 2012، في وقت كانت فيه المنظمات الدولية «قلقة» على «حرية التعبير» في الإكوادور، منح كوريا حق اللجوء إلى مؤسس موقع «ويكيليكس» جوليان اسانج، الذي لا يزال حتى اليوم في سفارة الإكوادور في لندن، ما أثار غضب الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد.
يرفض كوريا أي تدخل أجنبي في قراراته الداخلية، وهذا ما أكّده عندما أُعيد انتخابه للمرة الثالثة، إذ قال أمام عشرات الآلاف من أنصاره إنه «لا يمكن أحداً أن يوقف هذه الثورة. فالقوى الاستعمارية لم تعد هي صاحبة السلطة، وعليكم أن تعلموا أن الإكوادوريين هم أصحاب السلطة... إننا اليوم نصنع التاريخ».
وبالرغم من كل الانتقادات والاتهامات التي يتعرض لها، لم تتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، وعمل على توحيد الصفوف، فأصدر، على سبيل المثال، مرسوماً رئاسياً، في 2015، يقضي بالعفو عن الشرطي الذي حاول اغتياله في أثناء الانقلاب وحكم عليه بالسجن لمدّة 12 عاماً، بعد تقديم الأخير اعتذاراً لجميع المتضررين.
اليوم، يترك كوريا، الذي ودّع عدداً كبيراً من «رفاق الدرب»، كان آخرهم زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو العام الماضي، الحكم في وقت يواجه فيه الاقتصاد تحديات كبيرة نتيجة الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في 2016 وأدى إلى مقتل وجرح الآلاف وخلّف وراءه دماراً هائلاً، دفع الرئيس إلى اتخاذ اجراءات اقتصادية قاسية، تشمل زيادة بعض الضرائب وخفض الرواتب.
وبالرغم من أن اقتصاد الإكوادور شهد في العامين الماضيين نموَّ الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 4 في المئة (أعلى بثلاث مرات من متوسط النمو بين دول المنطقة)، فإنّ الكلفة الهائلة للدمار وتراجع أسعار النفط، بدأت تلقي بظلالها على البلاد.