لا مقارّ أمنية في محيط نزلة «السارولا». مع ذلك، الحواجز الحديدية الصغيرة مثبتة على الرصيف الطويل. الطريق إلى الحمرا مقطوعة، نصف مقطوعة، الطريق متعرجة. وهذه أفكار ليست متخيّلة. الحواجز تسيّج الأرصفة. الأرصفة لا تسيّج الطريق، الأرصفة محاصرة. الحمرا أشبه بساحة. ماذا عن محيط سليم سلام، وقصر آل سلام على مقربة من حي اللجا؟ الحواجز التي نُصبت هناك نُصبت لـ «دواعٍ أمنية»، وفق أحد حراس القصر.
صحيح أن الحواجز الحديدية ـ كما يفترض الجميع ـ هي مظهر من مظاهر «الأمن والأمان»، وأنها وجدت في الأساس لحماية المرافق الحيوية والأمنية، خصوصاً في العاصمة، كما يقول، لكنها في النهاية، حواجز. والوظيفة هذه، طبعاً، لا تنسحب بالضرورة على كل الحواجز المشيدة حديثاً في الحيّز العام، وتحديداً في محيط نزلة «السارولا»، الذي قُضمت أرصفته أخيراً بفعل تراصف الحديد المغروز على جانبي الطريق.

يتساءل محمد ما إذا كانت
«سوليدير» تحمي واجهات المحال والأرصفة من «الناس» أمثاله

المدينة تتقلّص بفعل تراصف الاسمنت من كل الجهات. يقول أحد المتملّكين في الشارع إن خطة تداخل السواتر مع الرصيف، ليست سوى بدعة من بلدية بيروت لتنظيم السير في الحيّز الحضري، باعتبار أن الشارع يضيق بزواره الذين «اعتادوا ركن سياراتهم أينما كان». يوافقه جاره الذي أومأ برأسه باتجاه «الباركينغ» العام المشيّد حديثاً، قبل أن يدافع عن القواطع التي توشك على الصدأ، والتي تتوسط الرصيف كـ «حصن منيع» بوجه كل من يحاول أن يركن سيارته في «مكان غير مخصص للوقوف». البيروتي العتيق لا يعترف باللافتات، ولا بدورها في تنظيم حركة المرور. يسخر من لافتة «ممنوع الوقوف». ويقول إن «اللبناني لا يحترم إشارات المرور، فكيف تريدون منه أن ينصاع إلى عبارة مكتوبة على لافتة؟»، مبرراً بذلك إجراء البلدية الذي يتعارض عملياً مع أي تصميم ونظام توجيهي مقبول. يركل أحد القواطع.
ماذا نفعل بالرصيف الذي تشوه؟ أي مدينة في العالم تُستباح أرصفتها المخصصة للمارة وسائقي الدراجات الهوائية من قبل دائرة حكومية، لعلّ إحدى مهامها الأساسية تأهيل الأرصفة بشكل ملائم ومدروس؟ ماذا نقول للعابرين، والمقعدين منهم خصوصاً؟ أين تذهب برانيا، الشابة المقعدة التي افترشت لسنوات عدة الرصيف نفسه الذي يمتد صعوداً باتجاه مبنى «الكونكورد»، من دون أن تتمكن من أن تجوبه بسبب حواجز حديدية، تحولت بفعل الزمن إلى جدران تعيق قدرتها على التحكم بمسار كرسيّها المتحرك؟ كيف نقنع صديقنا وجاره الذي دافع بشراسة عن «إنجاز» البلدية، بأن عجز رانيا، وآخرين، أمسى عجزاً مضاعفاً، وأن الحواجز الحديدية «كبّلت» المدينة وأعاقت المسير على أرصفتها؟ والأهم، كيف نقنع السائقين الأشاوس ألا يركنوا سياراتهم على الرصيف، في حال نزع العوائق.
العوائق صامتة. وكذلك الحواجز الاسمنتية الضخمة. لكن الكتابة المحفورة في صلب الحاجز الإسمنتي تحيلنا إلى أننا نقف، عملياً، في منطقة شملها مشروع رفيق الحريري الإعماري في تسعينيات القرن الماضي. بيروت، بالباطون. صحيح أنّ الأبنية الصلفة، التي تتخذ طابعاً حداثوياً، كفيلة بتحديد هوية المنطقة والانتماء الطبقي لزائريها. لكنها ليست كافية لإبعاد الفئات «غير المرغوب فيها» عن أسواق بيروت، وهي الفئات التي لا ترتقي، في العقلية الرأسمالية السائدة، إلى الطبقة التي شُيد الوسط التجاري لأجلها. وهذه إحدى وظائف الحواجز الاسمنتية المزروعة في محيط «الداون تاون»، كما يراها أغلب المارة، الذين لا يتوانون عن شتم وسط المدينة بصورته الراهنة. صورة «يمكن الاستدلال إليها بالنظر إلى عدد الحواجز الذي أصبح يفوق (بأشواط) عدد المقاهي وواجهات المحال التجارية قيد الحِماية من مخاطر قد تبدو لأي عابر مجهولة»، على ما يقول محمد، وهو شاب عشريني يعمل في «الأسواق». وفي معرض حديثه عن تلك المخاطر، يتساءل محمد ما إذا كانت «سوليدير» تحمي واجهات المحال والأرصفة من «الناس» أمثاله. «كيف تعزلين مدينة عن أهلها؟» يسألنا، قبل أن يجيب مستدركاً: «تستبدلين المساحات العامة بحواجز وجدران تعيق تفاعلهم المفترض مع تلك المساحات».

يذكّر رهيف فياض أنّ السواتر الاسمنتية «تعميم لحالة إقفال المناطق على الناس، بسبب عدم وجود حيّز عام في المدينة»
وهو إجراء «ليس بريئاً»، كما يصفه المهندس المعماري، رهيف فياض، ولم يتم بين ليلة وضحايا. يذكّر فياض أن «سوليدير» طردت أكثر من 130 ألف شخص خلال فترة إعادة الإعمار، قبل أن تخصّص هذه المنطقة، تبعاً للتنظيم المدني ونوعية البناء وتكلفته المرتفعة، لفئة من الأغنياء الذين «لا نعرف هويّتهم». هكذا، شكلت منطقة «البلد»، كما يحب أن يسميها، نوعاً من الضواحي «لكن للأغنياء فقط».
وخلال تلك المرحلة، «بدأ الفرز الطبقي»، وتحددت هوية المنطقة المستحدثة «لنمط معين من الناس» الذين لا يقيمون في حساباتهم وزناً لكلفة «الباركنغ»، التي قد توازي أحياناً ثمن نصف صفيحة بنزين، لقاء ساعاتٍ قليلة من التسوّق. وهذا ما يبرّر، بحسب فياض، التصميم التوجيهي «السيئ» للأرصفة والشوارع التي حصنتها «سوليدير» بالحواجز الاسمنتية، كي «تلغي بذلك لقاء الناس من كل الفئات». ويخلص إلى أن تكاثر «السواتر» الاسمنتية، وهو المصطلح الأدق بنظره، «تعميم لحالة إقفال المناطق على الناس، بسبب عدم وجود حيّز عام في المدينة». وبعدما تحولت كتل الاسمنت إلى وسيلة لـ «تنظيم الاختلافات الطبقية في الحيّز الحضري»، أسهم «التفلّت القانوني» في أن تصبح سلاحاً نافذاً في أيدي بعض السياسيين وذوي النفوذ «أمثال نادر الحريري»، الذي أحاط «قصر القنطاري» بجدران اسمنتية «تشبه جدار الفصل الإسرائيلي في الأراضي المحتلة». «من هو نادر الحريري؟ هل هو شخصية تستوجب كل هذا التحصين الأمني؟»، يسأل فياض هازئاً، قبل أن يحيل سلوك الحريري، «الذي فيه شيء من التشاوف اللبناني»، إلى محاولة لاستعادة «هيبة» حريرية مفقودة، قد تكون هي نفسها التي حاول مشروع رفيق الحريري أن يفرضها على أهل المدينة، عبر حاجز اسمتني نُقش عليه زيفاً اسم «بيروت».