منذ عرضه في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الفائت، منافساً ضمن مسابقة «المهر الطويل»، كان يتوقع لـ «مولانا» The Preacher (إخراج وسيناريو مجدي أحمد علي ـــ 130 د.) أن يثير جدلاً، إثر العرض الجماهيري في مصر.
ذلك أنّ الفيلم المأخوذ عن رواية الصحافي الشهير إبراهيم عيسى (كتب الحوار أيضاً)، يبحر دون مواربة في حساسيات الدين والفتاوى، والعلاقة الملتبسة مع السلطة السياسية ووسائل الإعلام. أزهريون وبرلمانيون طالبوا بوقف عرضه (الأخبار 9/1/2017). تمّت قرصنة نسخة معقولة الدقة، وإتاحتها للتحميل، للتأثير على الإيرادات (إنتاج: i Production «نجيب ساويرس»، توزيع Cedars Art Production «صادق الصباح»).
«متطرفون ومتشددون يكرهون السينما، ويحكمون على هذا العمل الفني دون مشاهدته»، أحمد علي وصف المطالبين بوقف العرض، مؤكّداً أنّ «دليل نجاح الفيلم هو أنّه اصطدم بالمتخلّفين». معركة كان الصيدلاني وخرّيج المعهد العالي للسينما تمنّى عدم وقوعها، لدى حديثه إلى «الأخبار» في دبي، خصوصاً أنّ العمل خرج من الرقابة المصريّة بصفر ملاحظات. «الشعب المصري من أكثر الشعوب محافظةً في العالم. أفراده غير ميّالين إلى مناقشة القضايا الحسّاسة عموماً. يحبّون إخفاء التابو تحت السجادة، وعدم فتح الجروح لتنظيفها». قالها معلّقاً على فيلم، لا جدال في أهميته وجرأته.

الشريط المقتبس عن رواية ابراهيم عيسى، يتابع صعود شيخ أزهري من إمام مسجد حكومي، إلى نجم تلفزيوني



«مولانا» يتابع صعود الشيخ الأزهري «حاتم الشنّاوي» (عمرو سعد)، من إمام مسجد حكومي، إلى داعية شهير مع برنامج تلفزيوني. كذلك، يستعرض حبّه لـ «أميمة» (درّة)، وزواجه منها بتمهيد سريع. هو محور الفيلم. الداعية المودرن، الشعبي، خفيف الظل. «نجم» محبّ للأضواء والشهرة والحداثة وأغاني أنغام. تلميذ شيخ صوفيّ (رمزي العدل). مزيج من 4 شخصيات حقيقيّة، منها إبراهيم عيسى ذاته. يداعبه المذيع «أنور» (بيومي فؤاد): «دماغك عالية أوي يا مولانا. ما تمضي معانا سيتكوم». بيد أنّه مسؤول تجاه سلطة الإفتاء، وحريص على تيسير الأمور. يرى أنّ «المشايخ لو بسّطوا الدين مش هياكلوا عيش». يحاول نطق ما يمكنه من الحق، وإلا فالسكوت أو التلميح أو التعليق الساخر. يؤمن أنّ حريّة اختيار الدين مكفولة، لكنّه لا يجرؤ على إزعاج جمهور مشبع بخطاب التشدّد. يعترف: «أنا مركّز في الوعظ وليس في العلم، في الدعاية وليس الهداية». على المستوى الشخصي، هو متعلّق بابنه الوحيد. ينفطر قلبه لدى تعرّض صغيره لحادث بسبب انشغاله بمعجبيه. يعيش على أمل استفاقة الطفل من الغيبوبة.
«حاتم» ثرثار بطبيعة الحال والمهنة. حواراته لا تنتهي. تطرح الشائك والإشكالي. تسخر من العرف الجاهل والفتاوى الكريهة. كلام كثير عن الصوفيّة، والمعتزلة، والشيعة، وتجارة الرق، وملك اليمين، وإرضاع الكبير، وصحيح البخاري، وحريّة المرأة في الإسلام... كذلك، يلجأ إليه ابن الرئيس «جلال» (إحالة واضحة على جمال مبارك)، ليقنع شقيق زوجته «حسن» (أحمد مجدي أحمد علي) بالتراجع عن تنصّره، وتغيير اسمه إلى «بطرس». تسرّب الخبر سيحدث شرخاً في بنية السلطة برمّتها. يتداخل كل ما سبق مع ظهور «نشوى» (ريهام حجّاج) في حياته، ومحاولتها التقرّب منه بشتى الوسائل.
هكذا، يمكن استنتاج مدى وقوع مجدي أحمد علي في شباك الرواية المتشعّبة. صحيح أنّ مقارنة الفيلم بالاقتباس خلط لا طائل منه عادةً، باعتبارهما عالمين مختلفين، ولكن «مولانا» لم يتمكّن من الفكاك من أصله الروائي. لا يفتح خطاً حتى يسارع إلى بتره أو الرجعة عنه. قد يباغتنا ويتذكّره لاحقاً (مرض الابن، المشاكل مع الزوجة، ظهور نشوى، CD المعلّم الصوفي، اختفاء المتنصّر...). التشظّي الدرامي يجعله لاهثاً، مشرذماً طوال الوقت. يريد المرور بعشرات الأفكار، وتغطية أكبر قدر ممكن من الرواية. المشوّق من الحكاية يذوب كذرة سكّر في شراب سميك. نعم، الفيلم مكلّف فوق وسعه. إنّه ليس كساعات إبراهيم عيسى التلفزيونية، التي تحتمل التحليل والإحاطة والتلقين.
لكن مجدي أحمد علي ليس قليل الخبرة، حتى يسقط في فخ سافر كهذا. ما التفسير؟ من يعرف الرجل يدرك مدى توقه لتفكيك الخطاب الديني، وطرح التطرّف الأعمى، الذي يضرب المنطقة طولاً وعرضاً. تطرّق إليه منذ إقلاعه المبشّر في «يا دنيا يا غرامي» (1996)، دون أن يغفل عنه في الأقل مستوى «عصافير النيل» (2009). الرواية مغارة علي بابا بالنسبة له. لقد آثر استغلال الفرصة، على أيّ منطق آخر. أخطأ بالتحوّل إلى «انتهازي» و«جشع» بالمعنى الدرامي، على حساب السيناريست «الجزّار»، الذي يكتفي بما يلزم فقط. تستمرّ المشاكل بالنهاية التطهيريّة السعيدة. فجأةً، لم يعد لمآزق حاتم الشنّاوي عبر الشريط قيمة. كالسحر، انقلب البطل التراجيدي السائر نحو حتفه، إلى «هيرو» تجاري لا يسمح بخروج الجمهور حزيناً من الصالة. خطاب «كلّنا مسؤولون» الختامي، يحيل على نهاية «ضدّ الحكومة» (1992) لعاطف الطيّب، في انفجار أحمد زكي الذي لا يُنسَى.
في المقابل، لدينا العديد من النقاط المضيئة. حيوية مجدي أحمد علي الإخراجية، ولو أنّه لم يطلع عن كلاسيكيته. لعب ضمنها إلى الحدّ الأقصى، محاولاً شدّ الإيقاع وإبعاد شبح الرتابة (توليف: سلافة نور الدين). أيضاً، إدارته الناجحة للممثّلين. عمرو سعد يقدّم أداء عمره. يرتقي بأدواته إلى مستوى كبار التشخيص. حوار إبراهيم عيسى لافت بذكائه وخفّته، رغم ثقل المواضيع وكثرة الحكي. الإضاءة موفّقة إلى حدّ كبير (تصوير أحمد بشاري). أهميّة الفيلم عموماً، حاضن لكلّ ذلك. الصدور في زمن الظلام والمفخخات والانتحاريين في الكنائس. تفكيك الخطاب ابتداءً من جذور الفكر والعقيدة، وليس من باب الإرهاب التقليدي كما في «الإرهابي» لنادر جلال، و«دم الغزال» (2005) لمحمد ياسين، أو عبر بروباغندا التآخي التلقيني مثل «حسن ومرقص» (2008) لرامي إمام. التأكيد على فظاعة تسييس المعتقدات: «الإسلام والمسيحية تحوّلا إلى سياسة. الأول بعد وفاة الرسول، والثاني بعد خروج المسيح من بيت لحم». «نفاق أهل السلطة، وتأليف الأحاديث (النبويّة) متأصّل منذ أيّام الأمويين والعبّاسيين، وهو مستمرّ حتى الآن». المثلث النابض بين الدين والسلطة والإعلام. في النهاية، وحدهم البسطاء من يدفع الثمن، بسبب حكّامهم أولاً، وبسبب تصلّبهم الذهني ثانياً. يقول حاتم الشنّاوي: «في البلد دي صعب تقنع واحد أهلاوي يبقى زملكاوي، فما بالك بالدين؟».