اغتيال السفير الروسي في تركيا، لا يمكن وليس من شأنه، التأثير سلباً في توجه الدولتين لتطبيع العلاقات بينهما. إرادة التطبيع أقوى من أي تداعيات لـ"حادثة تكتيكية"، رغم أهميتها. تبعاً لذلك، لا تغيير جدياً متوقع لاستراتيجيتي موسكو وأنقرة، وتوجهاتهما حيال المسألة السورية.
جاءت عملية الاغتيال في مرحلة حساسة جداً، ويُتوقع لها أن تدفع موسكو أكثر إلى التمسك بمواقفها في سوريا، وهي ستتوقع وستعمل بناء على هذا التوقع، أن تعمد أنقرة إلى تليين مواقفها في المقابل، في الوقت الذي تتجه الإدارة التركية لسلوك مرحلة "التليين القصري" لهذه المواقف بعد تقلص آمالها في الساحة السورية، وتحديداً في أعقاب قصور اليد التركية على تغيير مسارات الحرب.
لقاء موسكو بين وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا، يعدّ أهم حدث سياسي في مرحلة ما بعد استعادة الدولة السورية وحلفائها مدينة حلب. هي خطوة أولى باتجاه سحب إقرار من الطرف الآخر بالنتائج السياسية للانتصار الميداني. السؤالان المترابطان في سياق لقائي موسكو هما الآتيان: هل وصلت أنقرة إلى الحد الذي تقرّ به بخسارة الحرب ووفقاً لذلك ستقلص آمالها وتطلعاتها في الساحة السورية؟ أم أنها لا تريد أو لا تقوى على التعايش مع النتائج المقدرة سياسياً للحرب الميدانية، وستواصل مساعيها الهادفة إلى تخريب أو تأجيل الانتصار المتبلور؟
الوقائع الحالية والمقدرة لاحقاً، تشير إلى أن نتائج الحرب الميدانية بات بالإمكان تقديرها، وهي مسألة وقت لا أكثر. في الساحة السورية، ميدانياً، يوجد شبه منتصر وشبه مهزوم، بلا ضرورة كي يعلن أحد الانتصار الكامل أو الإقرار بالهزيمة الكاملة. المفاوضات السياسية في هذه المرحلة، وبناء على هذا الواقع، هي التي تقرر حدود التثمير السياسي للواقع الميداني المحقق حالياً، أو ذاك الذي بات بالمقدور تحقيقه لاحقاً: ماذا بإمكان الدولة السورية (الحاضرة بالوكالة بمعية حليفيها في لقاءات موسكو)، سحبه من تركيا بعد أن كادت تكون وحيدة في الميدان؟ وفي المقابل، ماذا بإمكان تركيا أن تقوم به، سياسياً، للحدّ من الانكسار؟
ولكي تتبلور المعطيات، التي تمكّن استشراف المآل السياسي في سوريا، من المفيد التذكير والإشارة إلى عوامل القوة والضعف، في موقف الأطراف:
خرجت وأخرجت الدول الخليجية الداعمة للجماعات المسلحة في سوريا. الفشل الذي منيت به ميدانياً، أخرجها بشكل مذل. لم يعد لهذه الدول تأثير مباشر على المجريات الميدانية، وبالتالي السياسية. نعم قد تكون حافظت على كونها قوى رديفة من ناحية إعلامية، وهي حرب تقودها بلا هوادة وما زالت مستمرة في زمن انكسارها الفعلي، ولا يقدر لها أن تنتهي قريباً. هذه الدول، من ناحية عملية، لم تعد ذات وزن في المعادلات.
خرجت أيضاً، الإدارة الأميركية الحالية وأخرجت بعد فشل، رغم كل المحاولات التي قامت بها ضد الدولة السورية وحلفائها. نعم، جهدت الإدارة الأميركية الحالية للانتصار في هذه الحرب، لكن منعة ومثابرة وموقف الطرف الآخر أحبط جهودها، فآثرت التراجع بعد أن وضعت أمام خيار لا تريده، وربما لا تقوى عليه: التدخل العسكري المباشر الواسع، بعد فشل كل الخيارات البديلة الأخرى. الحديث عن أن أميركا تراجعت لأن الإدارة تجبن في الصعاب وامام التحديات، هو حديث تسفيهي للواقع والوقائع التي واكبت الحرب السورية، فالتراجع الأميركي ليس نتيجة رؤية لدى إدارة، اكثر من كونه تراجع دولة وإمبراطورية لم تعد قادرة على خوض خيارات متطرفة.
في السياق نفسه، ثبت أن الجماعات المسلحة على اختلافها، غير قادرة على تحقيق المهمة. هذه الجماعات هي الخاسر الأكبر، وعليها وعلى أنقاضها، ستبنى التسوية السياسية كيفما اتجهت.. أقصى ما يمكن وفي حده الأدنى على السواء، سيكون على حساب هذه الجماعات. حان الآن موعد اجتثاثها بعدما أخفقت في تحقيق الوظيفة المسندة إليها، وكان في الأساس سيحين حصادها بعد ان تنهي وظيفتها، إن هي نجحت.
فشل الإدارة الأميركية في سوريا، والإعلان غير المباشر عن هذا الفشل على لسان الرئيس الأميركي الحالي، باراك أوباما، يأتي في موازاة وسياق استعادة حلب وتداعياتها على الميدان السوري، ومن شأنه أن يلقي بظلال ثقيلة جداً على الإدارة الأميركية المقبلة. التقدير، ما قبل حلب، ان تعمد إدارة الرئيس دونالد ترامب الى ما يشبه التملص من وعوده الانتخابية في سوريا، عبر طلب أثمان تراجعه فيها، لكن من شأن الواقع الميداني في مرحلة ما بعد حلب ان تدفع ترامب الى التمسك أكثر بمواقفه الانتخابية، بمعنى التراجع ضمن تسوية ما، بإمكان الدولة السورية تحمل كلفتها.
ضمن هذه المعطيات، تبقى الدولة التركية شبه وحيدة في الميدان، مع التشديد على شبه وحيدة.

أُخرِجت الدول الخليجية الداعمة للجماعات المسلحة بشكل مذل
لكن ذلك لا يعني انها بلا مخالب.. الوجود العسكري التركي المباشر في الأرض السورية الذي لا يمكن تجاهل تأثيره، وقدراتها اللوجستية الفعلية على إطالة وتأجيل الانتصار العسكري عبر الجماعات المسلحة في الشمال السوري، يمكنها من الجلوس على طاولة المفاوضات مع أوراق، قد تراها معتبرة، وهي كذلك، لتحقيق حد أدنى من مصالحها في سوريا، وإن لم تكن في حجم ومستوى المصالح الواسعة التي كانت محددة في الماضي، التي وصلت الى حد التطلع لإسقاط الدولة السورية والامساك بها.
في هذا الاطار يشار الى جملة من المصالح التركية في سوريا، تتقاطع مع مصلحة الدولة السورية وبالتبعية مع حلفائها أيضاً.. كما هو الحال مع التطلعات الكردية في سوريا، وهي مصالح تعد من ناحية انقرة محققة مهما كانت نتيجة التسوية، لأنها لا تتعارض بل تتوافق مع مصلحة خصومها واعدائها في الميدان. تطلع انقرة سيتجه نحو دائرة أوسع من دائرة التقاطع في المصالح، فهل أوراقها تسمح لها بفرض توسيع هذه الدائرة؟
في الخلاصة، الحرب السورية لم تنته، وإن كانت سكة الحل موجودة ووضعت خياراتها وفرضياتها عليها، وبما يتوافق الى حد كبير مع مواقف الدولة السورية. مع ذلك، المسار طويل الى حين اعلان الانتصار وتثبيته، رغم ان المسار واضح بالإجمال. في المقابل، الطرف المقابل خسر ولم يتنازل حتى الآن، وإن تراجع فلأنه مضطر للتراجع لا اكثر، وهو معني بتأخير اعلان الانتصار وتأخير تثبيته، وسيسعى في سياق وموازاة ذلك لتحقيق اكبر قدر من المصالح، بمعنى الحد من الخسائر قياساً بالمكاسب التي كانت في متناول اليد في مراحل سابقة. بين هذا وذاك، ستدار المفاوضات السياسية الفعلية بين الأطراف، وأولها، اللقاءان السياسي والعسكري في موسكو، وذلك بانتظار الإدارة الأميركية المقبلة، التي إن تمسكت بمواقف ترامب الانتخابية، لتعذر البدائل امامها، فستوضع الحرب على سكة انهائها.