عندما أُخلي مبنى العيتاني في المصيطبة عند مطلع الشهر الحالي بسبب خطر انهياره على سكانه، طُرحت مسألة الغش في البناء للتصويب على ضرورة تفعيل الرقابة ومحاسبة المهندس المسؤول. إلّا أن "استديو أشغال عامة"، اعتبر حينها أن المبنى المذكور ليس "حالة فردية"، بقدر ما هو نتيجة توّجه اقتصادي يرى أن عمليات البناء سلع تجارية بحت، مُشيرا الى الأنظمة التي تختصر عمليات البناء بـ "عوامل الاستثمار".
وقتها، أراد "استديو أشغال عامة" أن يشرح كيف أن قطاع التجارة الذي يحكم عمليات البناء، يدخل كركيزة أساسية لصياغة القوانين التي ترعى السكن والعمران في المدينة. هذه القوانين نفسها هي التي تُهمّش الحق في السكن وتُغيّب أهمية النسيج العمراني والاجتماعي لأحياء المدينة.
قبل مبنى العيتاني بسنة، أُخلي مُجمع "السيد" في المنطقة نفسها في حي اللجا لأنه كان مهدّدا بالسقوط أيضا، وهو مُجمّع مؤلف من ثلاثة مبانٍ، تم إخلاؤه لأنه بناء قديم ولم تتم "متابعته وترميمه"، وفق ما يقول أهالي الحي.
لا وجود لإحصاءات حول المباني المُهدّدة بالإخلاء لدى نقابة المهندسين او الجهات المعنية. كذلك تغيب الأرقام عن المباني المؤجرة القديمة التي تحتاج الى تأهيل. العمران والحق في السكن ليسا من أولويات السلطة التي حوّلت بيروت، عبر سياساتها، الى مساحة للمضاربات العقارية وورش البناء، تطرد سكانها وتحوّل احياءها الى معقل للمُستثمرين ومنغلقات لذوي الدخل المُرتفع.
أول من أمس، نظّم "استديو أشغال عامة"، معرضا وجلسة نقاش حول قضية السكن والتغيير العمراني في أحياء بيروت، شارك المحامي نزار صاغية (جمعية المفكرة القانونية) ونادين بكداش وعبير سقسوق (استديو اشغال عامّة)، وقدم منصور عزيز عرضا للموقع الالكتروني الجاري العمل عليه لوضع خارطة لعمليات الاخلاء في المدينة.
تضّمن المعرض، خرائط حول ستة أحياء في بيروت، جرت دراستها ميدانيا وخلصت الى تقديم رواية عن الحي بلسان ساكينه. خلصت هذه الدراسة الميدانية إلى أن الإيجار هو الوسيلة شبه الوحيدة للسكن في بيروت، واكتشفت كيف أن هناك جهات دينية واجتماعية فاعلة تُسيطر على مجموعة من العقارات التي تملكها لتخلق نوعا من سوق السكن الخاصة بها، كحي البدوي مثلا. كذلك لفتت الى النهج الجديد في البناء القائم على خلق شقق صغيرة لمُضاعفة الأرباح، وبالتالي لخلق هشاشة في حق السكن.
أبرز الاستنتاجات التي خلصت اليها هذه الدراسة هو أن التغييرات الطارئة على أحياء بيروت التاريخية هي نفسها في كل الأحياء، ولفتت الى ضغط الإخلاء الموجود في كل حي. الأهم في هذه الدراسة الميدانية هو ربطها المعطيات والأرقام المتعلقة بالواقع السكني للأحياء بقانون الايجارات الجديد وأبرزت كيف يُساهم الأخير في تعزيز هشاشة السكن في المدينة التي تشهد تحولا جارفا، يكون لمصلحة رأس المال والمُستثمرين.


يتطلّب فهم سبب تطبيق
قانون الإيجارات الجديد معرفة ما يحصل في أحياء المدينة


حي الروم

في منطقة الرميل مثلا، حيث 75% من سكانها من المُستأجرين القُدامى من ذوي الدخل المحدود، هناك نحو 11 مبنى تحّولت من مبانٍ سكنية الى مبانٍ تجارية، فضلا عن وجود نحو 24 مبنى خاليا من السكان. أما المباني التي تخضع شققها لعقود ايجارات قديمة فتبلغ نسبتها نحو 30% من مجمل مباني المنطقة، أي نحو 64 مبنى. اللافت في حي الروم في المنطقة هو ما تُشير اليه الدراسة في ما خص شارع الخازنين، وهو سهولة اقناع المُستثمرين لبعض مالكي المباني، الذين هم من أصحاب الدخل المتدني، ببيع حصصهم. وذلك نتيجة واقع الملكية المتشعبة، إذ إن غالبية مالكي هذه الأبنية هم من الورثة الذين يتشاركون حصصا مع غيرهم، ما يُصعّب عملية الفرز.

طريق الجديدة

في طريق الجديدة نحو 32 مبنى خاليا أو يجري إخلاؤها أو مهدّدة بالإخلاء. واحد من هذه المباني، مؤلّف من 28 شقة مُعظم شاغليها من المُسنين مع وجود بعض الأشخاص المُقعدين. 27% من اشغالات السكن في الحي إيجارات قديمة، و40% من الشقق ملك قديم. أمّا نسبة الإيجارات الجديدة، فتبلغ 11% في الحي، فيما بلغت نسبة الملك الجديد نحو 13.7%.

المصيطبة

يعاني الكثير من سكّان المصيطبة خطر الإخلاء. تخلص الدراسة الى أن العلاقة الشائكة بين المُستأجرين القُدامى ومالكي الأبنية المؤجرة القديمة، أدّت الى الامتناع عن ترميم المباني، مُشيرة الى أن الكثير من المباني التاريخية يسكنها مُستأجرون قدامى، "إلا أن العديدين منهم مهددون بالإخلاء بحسب التغييرات في السوق العقارية". وتُضيف الدراسة في هذا الصدد أن الأحياء القديمة في المصيطبة تواجه خطر الإخلاء والهدم الكامل من العديد من أبنيتها التاريخية حبث أصبح قسماً منها مهجور ومعرّض للهدم.

الباشورة

تُعدّ منطقة الباشورة من أكثر أحياء المدينة التي لا تزال تحافظ على طابعها العمراني القديم. نحو 67% من مبانيها، هي مبان قديمة، أي ان أكثر من 198 مبنى تُصنف ضمن "النسيج العمراني القديم". تُحذّر الدراسة من خطر تحول المنطقة الى "سوليدير ثانية" وتلفت الى وجود أكثر من 29 مبنى مهجورا.
أمّا بالنسبة لحي البدوي، فقد شهد خلال ثماني سنوات إخلاء نحو 28 مبنى في حي البدوي. كذلك جرى هدم 16 مبنى وتشييد 8 أبراج وافتتاح 8 مطاعم. وهو دليل على ان الحي "يُجرّد" من سكانه ويتحول إلى نموذج منسجم مع ما يحصل في المدينة.

الشياح

لم تستطع الفرق البحثية في الدراسة أن تجمع معطيات وأرقاما في حي الشياح، نظرا لإشكالات أمنية تعرّضت لها. لكن المقابلات تُظهر أن الشياح يتعرّض لخطر الإخلاء، شأنه شأن بقية الأحياء البيروتية.
تأتي هذه الدراسة ضمن مشروع "أن نرسم بيروت من روايات مُستأجريها"، كمبادرة لمناقشة إمكانات السكن في بيروت وفهم هذه الإمكانات ضمن السياق التاريخي والاجتماعي الذي مرت به أحياء المدينة.
ينطلق مُعدو المشروع من تجارب المستأجرين القدامى ومسارهم السكني. ويستعرض محاولات الإخلاء التي يتعرضون لها، سواء عن طريق قانون الإيجار الجديد الذي صدر في نيسان عام 2014، أو عبر ضغوط السوق العقاري.
يقول المحامي نزار صاغية أن فهم سبب تطبيق قانون الإيجارات الجديد بهذه الصيغة يتطلّب معرفة ما يحصل في أحياء المدينة، مُشيرا الى تجاهل الدولة لاجراء الدراسات اللازمة حول طبيعة المالكين الجدد للأبنية القديمة، فضلا عن تجاهلها حق السكن في العاصمة. اللافت هو ما يُشير اليه صاغية وهو تساؤله عن سبب تطبيق القانون في بيروت دون بعبدا، في إشارة الى قوة ضغط "اللوبي" الذي أدّى الى إقرار هذا القانون لمصلحة بعض المُستثمرين في العاصمة.