أيّام حاسمة تعيشُها جبهات مدينة حلب بدأت بسقوط منطقة «مدينة هنانو» المترامية الأطراف (تشمل حي هنانو القديم، ومساكن هنانو) يوم السبت في قبضة الجيش السوري وحلفائه، ولا يبدو أنّها ستتوقّف قبلَ قلب موازين الخريطة الميدانيّة بصورةٍ لا رجعةَ عنها. وهذه الموازين ليست خاصة بحلب، بل تشمل كل الحرب السورية.
فاستعادة الدولة لمدينة حلب كاملة ستقضي نهائياً على حلم سيطرة المعارضة ورعاتها الخارجيين على الشهباء، واستخدام ذلك لخلق «حركة دومينو» كفيلة بإسقاط حماه وحمص وما بعدهما بيد المجموعات المسلحة. وكان ذلك السيناريو كفيلاً بتهديد وجود الدولة، ووضع وحدة سوريا على المحك. فحلب كانت ستمثّل منطلقاً لموجة غزوات نحو المحافظات الوسطى والجنوبية، وعاصمة الأمر الواقع لـ«دويلة الشمال». لكن أحداث اليومين الماضيين قلبت «أثر الدومينو» لتصبّ نتائجه في مصلحة الدولة السورية.
الانهيار السريع الذي مُنيت به المجموعات المسلّحة في قسمٍ مهم من الأحياء الشرقية أمس، وإن بدا مُفاجئاً، كان في واقع الأمر «طبيعياً» بالاستناد إلى جملة معطيات تراكميّة منذ أربعة أشهر. استعراضٌ شاملٌ لمسار الحرب في حلب منذ عام 2013 حتى اليوم سيكون كفيلاً بتبيان أبرز أسباب فشل «المعارضة» بشقّيها السياسي والمسلّح (وضمناً «الجهادي») على مدار السنوات الماضية وهو غياب أي استراتيجيّة واضحة.

كان مخطّطاً لحلب
أن تكون عاصمة الأمر الواقع لـ«دويلة الشمال»
وعندما تتوفر الاستراتيجيات والموارد البشرية والمادية اللازمة لتحقيقها، كان التنفيذ يصطدم بدفاعات الجيش السوري وحلفائه، وقدرتهم على تعويض الخسائر. الاعتباطيّة والغوغائيّة كانتا أبرز سمات المعارضة في حلب، الاقتتال بين المجموعات المسلّحة لأسباب تتعلّق بـ«نهم السيطرة» حيناً، وحيناً آخر تنفيذاً لأجندات الدول الداعمة وسباق مد النفوذ في ما بينها، رافقه غياب تام لأي فعالية لدى المعارضة السياسيّة، ولأسباب لا تختلف كثيراً عن سابقتها. على المقلب الآخر، كانت الخطط واضحة في معسكر الجيش وحلفائه، رغم الانكسارات التي مُني بها تنفيذ تلك الخطط بين مُنعطف وآخر بفعل عوامل ميدانيّة أحياناً، وسياسيّة في أحيان أخرى. وليس من المبالغة في شيء القول إنّ ما حقّقه الجيش خلال اليومين الأخيرين كان حاضراً في حسابات المخطّطين العسكريين على الورق قبل ثلاثة أعوام. وكان الجيش وحلفاؤه قد دشّنوا «الانعطافة الكبرى» في «عاصمة الشمال» منذ تمّوز الماضي مع اكتمال «طوق حلب» الذي وُضعَت خُططُه قبل ثلاث سنوات (الأخبار، العدد 2946). وعلى الرّغم من نجاح «جيش الفتح» في إحداث ثغرة بعد أيّام من اكتمال «الطوق»، غيرَ أنّ المحصّلة النهائيّة لمعركة الكلّيّات الشهيرة صبّت في مصلحة الجيش السوري. الأمر ذاته ينطبق على «غزوة أبو عمر سراقب» أواخر الشهر الماضي. ومع فشل «الغزوة» الأخيرة، نجح الجيش في تدشين المسار العكسي بدءاً من ترسيم خطوط اشتباك جديدة («الأخبار»، العدد 3021)، مروراً بتوسيع هوامش الأمان وتحصين الخاصرة الجنوبيّة الغربيّة، وليس انتهاءً بما أنجزه خلال اليومين الماضيين. وتضافرت عوامل عدّة في تقويض الروح القتاليّة لدى مسلّحي الأحياء الشرقيّة؛ على رأسها إحكام الطوق وتلاشي احتمالات كسره، إضافة إلى اصطدام كل المناورات السياسيّة الغربيّة بصخرة موسكو. وتكفّل الأسبوعان الأخيران بتظهير مفاعيل الحصار، سواء في ما يتعلّق باستنزاف الذخائر أو بتزايد النّقمة الشعبيّة ضدّ المجموعات المسيطرة وتحميلها مسؤوليّة سوء الأوضاع المعيشيّة. ولعب الاستهداف النّاري للأحياء الشرقيّة بمختلف أنواع الأسلحة، وعلى رأسها الغارات الجويّة، دوراً إضافيّاً في تسريع الانهيار، لا سيّما مع خروج معظم المشافي من الخدمة. كذلك؛ ترك الانشغال التّركي بمعارك «درع الفرات» أثراً سلبيّاً مضاعفاً على المجموعات المُحاصَرة، وخاصّة أنّ الأتراك أبلغوا المجموعات منذ أكثر من شهر بوجوب «نسيان أمر مدينة حلب» («الأخبار»، العدد 3002) بعدما انتهت «غزوة ابراهيم اليوسف» إلى فشل ذريع (آب الماضي)، وهو ما لم تُسلّم المجموعات بجديّته، حتى مع فشل «غزوة أبو عمر سراقب» التي جاءت أشبه بمحاولة «النّزع الأخير» لـ«جبهة فتح الشام/ النصرة» وحلفائها. على الأرض، كان الجيش وحلفاؤه قد مهّدوا طوال أسبوعين للعمليّة البريّة التي استوفت شروطها، السياسيّة منها والميدانيّة. وبدأت أحجار «دومينو» المجموعات المسلّحة بالتهاوي بدءاً من أوّل الأحياء التي خرجت عن سيطرة الدولة السورية عام 2012 وهو حي مساكن هنانو، ليتتالى أمس سقوط عدد من الأحياء المحيطة به: الصاخور، جبل بدرو، بعيدين، أجزاء كبيرة من الحيدريّة. فيما باتت أحياء عين التّل، الشيخ فارس، الشيخ خضر بحكم الساقطة عسكريّاً. وأسفر هذا التهاوي عن مسارعة مئات المسلّحين إلى الانسحاب الاعتباطي من القسم الشمالي من الأحياء الشرقيّة خشيةً من وقوعهم في نطاق «طوق» جديد لا يفصل بين الجيش وبين أحكامه سوى حوالى نصف كيلومتر (هي المسافة الفاصلة بين نقاط سيطرته في الصاخور من جهة، وكرم الجبل من جهة أخرى). مصدر عسكري سوري أوضح لـ«الأخبار» أنّ «قرار بدء العمليّات اتّخذ بعد تعنّت الإرهابيين وتقويضهم كل مبادرات التّسوية». المصدر أكّد في الوقت نفسه أنّ «العمليّة مستمرّة حتى توحيد شطري حلب وإعادتها بأكملها إلى حضن الدولة السوريّة». وتمنح المجريات الميدانيّة أفضليّة تامّة للجيش، في ضوء التخبّط الذي يعصف بالمعسكر الآخر. ومن المرجّح أن يعمد الجيش إلى فتح جبهات جديدة على مسارات أخرى استكمالاً لنهج «تشتيت الجبهات»، سواء نحو محيط المدينة القديمة أو نحو الأقسام الخارجة عن سيطرته في حي صلاح الدين المتاخم لحي الحمدانيّة. في المقابل، تبدو الخيارات المتاحة أمام المسلّحين قليلة، وتكاد تقتصر على إمطار الأحياء الغربيّة بالصواريخ، علاوة على محاولات جديدة لشن هجمات من الخارج نحو الداخل وتحديداً عبر الأطراف الجنوبيّة الغربيّة للمدينة. ويحتاج نجاح محاولات كهذه لقلب الموازين إلى «معجزة» حقيقيّة في ضوء التحوّل الجذري لموازين القوى على تلك الأطراف.

«الأكراد» شركاء الساعات الأخيرة

وبالتزامن مع عمليّات الجيش السوري، دشّنت «وحدات حماية الشعب» الكرديّة عمليّات خاطفة، انطلاقاً من حي الشيخ مقصود، أسفرت عن سيطرتها على حيّ بستان الباشا وأجزاء واسعة من حي الهلّك. وأوضحت مصادر كرديّة لـ«الأخبار» أنّ «الوحدات اتّخذت قرار الدخول على خط المعارك ليل أمس»، وتم التنفيذ بعد وضع غرفة عمليّات الجيش وحلفائه في صورة القرار. ووفقاً للمصادر، كانت «الوحدات قد استجابت قبل أيّام لرغبة قسم من سكان حي الحيدريّة بفتح أبواب الشيخ مقصود أمام الراغبين منهم في الخروج». وأفضى التواصل إلى الاتفاق على «ساعة صفرٍ» لتحرّك المدنيين، مروراً بحي الهلّك نحو الشيخ مقصود، قبل أن يستهدفهم مسلّحو «فرقة السلطان مراد» و«حركة نورالدين زنكي» بوابل من القذائف والرصاص، ما أدى إلى فشل محاولة الهاربين من جحيم المعارك، ولم يُفلح في العبور سوى ثلاثة شبّان. ودُشّنت العمليّة التي أطلقتها «الوحدات» أمس بهجوم نحو حي الهلّك، وصولاً إلى منطقة المعامل، لتسفر عن فتح ممرّ أمام المدنيين الراغبين في المغادرة. وبحلول التاسعة من ليل أمس، غادر قرابة ألفي شخص، فيما فضّل آخرون الهرب نحو القسم الجنوبي من الأحياء الشرقيّة عبر حي الشعار.