استبق رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان أي نقد يمكن أن يوجه للدراسة التي قامت بها مؤسسته عن «خصائص وهيكلية الحركة النقابية في لبنان»، بتمويل من منظمة العمل الدولية ومؤسسة فريدريتش إيبرت. أعلن منذ البداية أن موضوع الدراسة بالغ التعقيد، والبحث المنجز هو جزء من عملية تراكم، وأضاف أن الدراسة "تمكنت من وضع اليد على الكثير من الأمور، لكن بقيت أمور خارج هذه اليد"، وبالتالي لم تتطرق إلى كل العوامل المؤثرة في الحركة النقابية، على أساس «أن دراسة واحدة ما فيها تقول كل شي».أقرّ حمدان، في لقاء عقد أمس لإطلاق الدراسة ومناقشتها، بأن الظروف التمويلية حالت دون تقديم لوحة إحصائية شاملة وتوسيع بيكار الفئات المشمولة في العينة التي ضمت 619 أسرة، «لكن التمرين كان مفيداً في كل الأحوال وأعطى فكرة عن الواقع النقابي اللبناني، وسط القحط في إنتاج أبحاث ودراسات تقارب هذه المسألة، باستثناء ما تكتبه الصحف»، وفق تعبيره.
حمدان نفسه دعا إلى التعاطي بحذر مع النتائج التي توصلت إليها الدراسة الميدانية، باعتبار أن بعض الأرقام أظهرت تفاوتاً مع أرقام دراسات أخرى، منها على سبيل المثال بلوغ نسبة المنتسبين إلى النقابات 11% في العينة المستخدمة، في حين أن النسبة لا تتجاوز 7% فعلياً في سوق العمل. ليس هذا فحسب، بل إن حمدان عبّر عن صدمته من أن يكون 63% من العينة راضون عن الأنظمة الداخلية للنقابات، و60% يعتبرون أن النقابات تمكنهم في العمل النقابي، و78% يرون أن قانون العمل يمنح الحرية النقابية.
هذه النتائج "المربكة" التي خلصت إليها دراسة منتظرة عن واقع الحركة النقابية العمالية في لبنان، لا تقلل من أهمية الدراسة نفسها والحاجة الملحة إليها، كما لا تقلل من أهمية النتائج الأخرى التي توصلت إليها والتي تعكس أزمة العمل النقابي. تستند هذه النتائج الى عينة لا تشمل العاطلين من العمل ولا العمال غير اللبنانيين، وهذه من النواقص المنهجية الواضحة، إذ تنعكس على جميع المعطيات المستخلصة على أساس الوضع الأسري والجندري وهرم الأعمار... والأهم مستوى المداخيل والأجور الوسطية.
على سبيل المثال، تحاول الدراسة قياس مستوى دخل الأسرة، إلا أن الدراسة نفسها تحذّر من أن قراءة النتائج يجب أن تأخذ بالحسبان أن "حجم الأسر التي شملها المسح هو 3.6 أفراد؛ ومتوسط عدد الأفراد العاملين في الأسرة هو 1.9 أفراد. ويعتبر هذا المعدل عالياً نسبياً نظراً إلى أن استطلاع الرأي هذا استهدف فقط الأسر التي فيها على الأقل فرد عامل واحد". هذا الانتقاء للعينة ليس مبرراً، وهو يعطي صورة غير دقيقة. إذ بحسب نتائج الدراسة الميدانية، أفاد ما يقرب من نصف الأسر (44.1%) بأنهم يكسبون أقل من 1.5 مليون ليرة لبنانية. وتبيّن المقارنة بين المحافظات أن 75% من الأسر المقيمة في شمال لبنان تكسب أقل من 1.5 مليون ليرة لبنانية، مقابل 26.2% فقط من الأسر المقيمة في جبل لبنان. إن الفوارق في دخل الأسر بين المحافظات واضحة، حيث 21.5% من الأسر التي شملتها الدراسة فقط تكسب أكثر من 3 ملايين ليرة لبنانية.
توصلت النتائج الى أن 90.9% من المجيبين يعملون في مؤسسة خاصة، في حين أن 6.4% فقط يعملون في القطاع العام. ووفقاً لمسح الإدارة المركزية للإحصاء لعام 2004 ، يعمل 12.9% من القوة العاملة في القطاع العام، بينما 85.8% يعملون في القطاع الخاص. على صعيد المنتسبين للنقابات، بينت الدراسة أن 9.3% من العاملين في القطاع الخاص هم من النقابيين بالمقارنة مع 35.9% في القطاع العام. وترجع النسبة المرتفعة نسبياً من النقابيين في القطاع العام إلى العضوية الإلزامية في روابط معلمي المدارس الرسمية.
تلقي الدراسة الضوء على العلاقة بين حجم المؤسسة ونسبة العمال النقابيين. إذ كلما كانت المؤسسة أكبر زاد احتمال مشاركة المستخدَمين في النقابات. وتقول الدراسة "الحقيقة إن تشوّه الاقتصاد اللبناني بسبب سيطرة المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر يؤثر على هيكل الحركة العمالية ويسهم في تشكلها. ومع ذلك، ينبغي للمرء أن يضع في الحسبان أن هناك عقبات أخرى تعرقل تنظيم العمل في النقابات، حتى في المنشآت الكبيرة، بما في ذلك الجوانب البنيوية للحركة النقابية والأحكام القانونية التي ترعى تنظيم القوى العاملة والعمل النقابي".
9.3% من العاملين في القطاع الخاص هم من النقابيين بالمقارنة مع 35.9% في القطاع العام

أظهرت النتائج أن 67.7% من أعضاء النقابات لم يلجأوا إلى نقابتهم عندما واجهوا مشكلة معينة مع صاحب العمل، حيث أشارت الردود في الاستبيان الى أن معظم المشاكل يمكن حلها بشكل فردي أو بمساعدة زملائهم. ويعتبر البعض منهم أن النقابة غير قادرة على تقديم المساعدة والدعم المناسبين. انطلاقاً من ذلك، أكد معظم المجيبين (55%) أنه لا يمكن تحسين ظروفهم المعيشية إلا من خلال الجهود الفردية، وشددوا على عدم ثقتهم في الحركة العمالية وفي قدرتهم على فرض التغيير في المجتمع. فقط 22.1% فقط من النقابيين يؤمنون بدور النقابات العمالية لتحسين مستويات معيشة العمال.
الدراسة ركزت على الأزمة البنيوية في الاقتصاد، كعامل رئيسي مؤثر في تحديد خصائص سوق العمل وأنواع الوظائف ومواصفات القوى العاملة وتوزعها بحسب القطاعات الوظيفية والجندر والاختصاص والفئات العمرية والجنسية، الخ. وبحسب الدراسة، فإن العوامل التي تشكل الأرضية لقيام حركة نقابية حقيقية هي معرفة أن المعدل الوسطي للنمو الاقتصادي لم يتجاوز 4%، وأن تورماً مالياً حصل نتيجة الانتفاخ في أنشطة التجارة والخدمات (75% من الناتج المحلي)، على حساب الصناعة والزراعة، فضلاً عن التطورات الحاصلة لجهة تزايد المؤسسات الاقتصادية المتنامية الصغر والتي لا يتجاوز عدد العاملين فيها 5 عمال والتي باتت تشكل 92% من المؤسسات، والاختلالات في الحسابات الخارجية، بحيث تبلغ فاتورة الاستيراد 18 مليار دولار مقابل تصدير الشباب الذين يرسلون الأموال، إضافة إلى زيادة وزن العمالة غير النظامية التي باتت تشكل 51% من الأجراء وعدم امتلاكها أي نوع من الحماية الاجتماعية، وعدم شمول مئات الآلاف من غير اللبنانيين في النقابات والإحلال المتسارع للفقراء السوريين مكان الفقراء اللبنانيين، بحيث ارتفع حجم القوى العاملة من مليون و200 ألف عامل إلى مليون و800 ألف عامل.
إلا أنّ المنسق العام للمرصد اللبناني لحقوق العمال، أحمد الديراني، رأى أنّ مثل هذه الدراسة «الاقتصادوية» كما سماها لا تكفي لقراءة الحركة النقابية التي هي حركة كل المجتمع وليست الحركة العمالية فقط، إذ لا يمكن فهم العمل النقابي خارج الانقسامات العمودية للناس والصراعات السياسية. بالنسبة إليه، ليس تفصيلاً أن تركز دراسة بهذا المستوى على انعكاس التطور الاقتصادي على بنية سوق العمل وتغفل بصورة فاقعة التحليل السوسيولوجي، وماهية العمل النقابي الممكن في ظل البنية الاجتماعية الطائفية والتركيبة السياسية اللبنانية.
العينة المختارة كانت موضع نقاش ونقد في الشكل والمنهجية، فعلّق الباحث في علم الاجتماع علي الموسوي على الاستبيان الذي لم يدخل إلى عمق المسائل، لكونه طال العمال وتجاهل القيادة النقابية ومدى وعيها بالعمل النقابي. وقال: «كان يفضل استبدال الاستمارة بمقابلات معمقة مع 20 شخصاً مثلاً للإضاءة على مشاكل الحركة النقابية».
وحول ما أثاره بعض الحاضرين لجهة ضرورة أن يترافق الإصلاح النقابي مع إصلاح الأحزاب السياسية، أوضح مسؤول الأنشطة العمالية في منظمة العمل الدولية مصطفى سعيد أن بناء قدرات الحركة النقابية اللبنانية لا يجب أن يتصل بالأحزاب بل إن إصلاح الأخيرة يأتي كنتيجة، لافتاً إلى أننا «نرغب في نقاش أوسع وأكثر عمقاً للقضية».