بعد كباشٍ طويل، انتهت عقدة حصول حزب القوات اللبنانية على واحدة من الحقائب السيادية الأربع في الحكومة المنتظرة، بغير ما تشتهي القوّات. وربّما وضع رئيس القوات سمير جعجع الحقيبة السيادية هدفاً معلناً في التفاوض، لينتهي الأمر بحصول حزبه على عددٍ أكبر من الحقائب كجائزة ترضية.وفي ظلّ تمسّك الرئيس نبيه برّي ومعه حزب الله بوزارة المال والرئيس سعد الحريري بوزارة الداخلية، وبقاء وزارة الخارجية في عهدة الوزير جبران باسيل، كان من شبه المستحيل أن تنال القوات الحقيبة السيادية الرابعة الباقية، أي الدّفاع، على الرغم من الاتفاق الواضح بين القوّات والتيّار الوطني الحرّ على اقتسام الحصص المسيحية بين الطرفين بالتساوي.
لماذا لا يمكن أن تكون وزارة الدفاع من حصّة القوّات؟ سؤال يحمل في طيّاته أجوبة بديهية، ولو أن لبنان بلد العجائب السياسية.
حين طُرحت في الإعلام مسألة تولّي وزير قواتي أو قريب من القوّات حقيبة الدّفاع، ثمّة من تخيّل بين ضبّاط الجيش اللبناني يده اليمنى ترتفع أمام جبينه لأداء التحيّة، لوزير يمثّل مشروعاً سياسياً اسمه القوات، بنى انتصاراته العسكرية الوحيدة خلال فترة الحرب الأهلية على قتال الجيش اللبناني ويداه مغمّستان بدماء الجنود والضّباط اللبنانيين. وهؤلاء الضّباط، بالمناسبة، لا لون لهم ولا دين في مقاربتهم لمسألة القوّات، وليسوا جميعهم من معاصري الرئيس العماد ميشال عون في قيادة الجيش وقتذاك، ولا يقلقهم سوى «النكسة» المعنويّة لهذا المشهد السوريالي بعد كلّ هذه السنوات، والخوف من تسلّل المشروع السياسي القواتي إلى جسم المؤسسة العسكرية، التي تبدّلت عقيدتها القتالية تبدّلاً جذرياً مع وصول العماد إميل لحود إلى قيادة الجيش.
صلاحيات وزير الدفاع ليست شكلية، بل تمسّ صلب عمل الجيش

قد يقول قائل إن مختلف الميليشيات اللبنانية خلال الحرب قاتلت الجيش وقتلت من جنوده وقتل الجيش من مقاتليها، لكنّ صراع القوّات في ذلك الوقت مع الجيش، كان صراعاً على «الشرعية المسيحية» وعلى الذراع العسكرية للمسيحيين، حين كان الجيش «جيش الرئيس أمين الجميّل».
ومع أن خطاب القوّات في نسخة ما بعد خروج جعجع بعفوٍ عام في 2005 «خالٍ من السّلاح»، إلّا أن المشروع السياسي، على الأقلّ في ما يتعلّق بالعداء لفكرة المقاومة بحدّ ذاتها وليس لحزب الله فقط، لم يتبدّل، ولا يزال الخلاف على حاله حول موقع لبنان في الإقليم وما يتبعه من ملفّات تخصّ سوريا وفلسطين والعلاقة مع الخارج.
وإذا كان الجانب المعنوي يأخذ الحيّز الكبير بين ضبّاط الجيش، فإن وجود وزير قوّاتي على رأس المؤسسة العسكرية، يأخذ حيّزاً «عملانياً» يدفع القوى السياسية إلى الرفض التام، ولا سيّما تلك التي تعتبر نفسها جزءاً من مشروع المقاومة المنتصر على إسرائيل، في مقابل مشروع الاستسلام المهزوم أمام إسرائيل، منذ 17 أيّار 1983.
سلطات وزير الدّفاع ليست شكلية كما يحلو للبعض أن يظنّ، ولو أنّها اتخذت هذا الطابع منذ ما قبل الطائف، ثم تعززت أثناء الوجود السوري في لبنان، وبعده بوجود وزراء دفاع محسوبين على رئيس الجمهورية، من دون أن يكون هؤلاء مدعومين من تيار سياسي يملك مشروعاً محدّداً، كالقوات اللبنانية.
يملك وزير الدّفاع مفتاح الحلّ والرّبط بسلطة التوقيع على عدّة أمور تدخل في صلب عمل المؤسسة العسكرية وتركيبتها. فتعيين قادة الكتائب في الجيش، يحتاج لتوقيع الوزير، كما قرارات ترقية الضباط من رتبة رائد وما فوقها. ولا يمكن الفائزين بمباراة الدخول إلى المدرسة الحربية أن يدخلوها من دون توقيعه، فضلاً عن أن سفر أي ضابط في الجيش من رتبة ملازم وصولاً إلى رتبة عماد، يحتاج إلى إذن الوزير، بصرف النظر عما إذا كان السفر للتدريب أو للمشاركة في مهمات أو في مؤتمرات أو لعقد لقاءات مع مسؤولين أمنيين أو سياسيين أجانب. فهل يؤتمن جانب القوّات في عدم السّيطرة على الجيش عبر اختيار قادة الكتائب والإسهام في اختيار قادة الألوية؟ وهل يؤتمن جانب الوزير القواتي لجهة ترقية الضباط ومنحهم أذونات السفر، بعدم استغلال هذه الصلاحية لتحويل الوزير إلى مرجعية سياسية للضباط، توضع أسماؤهم على جدول الترقية ويسافرون إن نالوا الرّضى ويمنعون من السّفر إن كانوا من المغضوب عليهم؟ والقصة هنا ليست شكلية أبداً، بل إن ما يُخشى منه هو نشوء "تيار قواتي" داخل الجيش، يُبنى من تلامذة ضباط يفرض الوزير ــ بقوة توقيعه، وعلى الطريقة اللبنانية ــ إدخالهم إلى المدرسة الحربية، ويجري تعزيزه بالضباط الذين يستقطبهم الوزير.
تغيير عقيدة الجيش اللبناني لم يأتِ على طبقٍ من فضّة، بل بعد حربٍ طويلة مدمّرة وبحر من الدّماء. وليس وارداً، الآن أو غداً، أن يُسلِّم المنتصرون على مشروع إسرائيل في لبنان الجيش على طبقٍ من فضّة.