في محبّة المُدن، يكتب الشعراء قصائد وأغنيات... المدن التي خُلقوا فيها، أقاموا فيها زمناً من حياتهم، طال أم قصر. لا تُحسب محبّة المُدن تلك بكمّية الوقت الماضي، بل بأمر وقوع الغرام بين الطرفين من عدمه وقد يحصل الغرام من نظرة. لكن من الشعراء مَن يحط القصيدة جانباً، ليبحث عن قالب مختلف ليحكي فيه عن تلك المحبّة التي في قلبه لتلك الأمكنة.على هذا، نجد أنّ «لا أحد يضيع في بيروت» (الحركة الثقافية في لبنان) للشاعرة والكاتبة اللبنانية الزميلة عناية جابر ظهر بلا تصنيف محدّد على غلافه باعتباره وثيقة أرادت الشاعرة من خلاله الحكي عن مدينتها بلا قواعد أو قالب شعري قد يعمل على محاصرة وتحديد حجم البوح والعتاب الذي تود قوله. هذا على الرغم من النَفس الشعري الذي يأتي على نحو تلقائي في جملتها التي تبدو في سياق «قصيدة مكتوبة باللحم». ولذلك تبقى «أقوى من الفولاذ»، لنجد نصوصاً كأنها كُتبت بعيون القلب ولو خطّت عتاباً أو أفصحت عن شكوى من بيروت نفسها «المدينة التي تنام غلط»، وبيروت التي «ليست على ما يرام» لأن «الناس تعيش بلا فرح، الناس وحيدة حتى آخر اليأس، وليس أكثر اقتراباً من الموت، سوى الناس الوحيدة».
شُغلت بصياغة تفاصيل المدينة التي تعرفها زاوية زاوية

هكذا يبدو أن هذه الشاعرة قد تفرّغت لهذا العمل طوال خمسة أعوام بعد «عروض الحديقة» (2011). لم تُصدر جابر هنا شعراً وقد شُغلت بصياغة حكاياتها البيروتية وتفاصيل المدينة التي تعرفها زاوية زاوية وشارعاً وشارعاً، «كأن الشعر أصغر من بيروت».
وفي النصوص نفسها، تبدو فكرة ترك بيروت والانتقال إلى مدينة أخرى مستحيلة لدى هذه الكاتبة، وهي التي ألقت بأوراق السفر والهجرة وراء ظهرها، فكلّما ارتفعت نسبة الناس الذين يتركون «البلد»، ويهربون إلى بلاد الله الواسعة، تقترب صاحبة «أمور بسيطة» من بيروت أكثر. كما أنها انتقلت أخيراً للإقامة في قلب المدينة ولصق شارعها الأهم، كأن الأمر تأكيد من جهتها على استحالة قطع ذلك الخيط الرفيع الذي يربطها بالمكان. مع ذلك تقول لنا شاعرة «لا أخوات لي» إنّ بيروت مؤلمة، «تؤلمنا بالفعل، آلاماً خفيفة، وخزات مُعّذِبة»، لكنّها «سرعان ما تزول، وليست الآلام التي تجعلنا نهجرها».
ولنا أن نلمس في نصوص الكتاب شكل اليوميات المنشغلة برصد أحوال المدينة بشكل دائم وحركة الناس داخلها عبر تقاطعها مع كل ذلك، وتحويلها إلى نصوص حيث كل نص يحتوي على فكرة ومعنى.
لعل هذا يُفسر وجهة نظر جابر حول مسألة البقاء في البيت واعتبارها «فكرة فاجرة» لأنّه «لا يمكنك حقاً في بيروت أن تبقى في البيت».
ومن خلال فكرة الخروج تلك وعبر توقيت صباحي مضبوط، تكون الفرص متاحة لتكوين المادة اللازمة لإنتاج النصوص التي تأتي أحياناً وهي تنطلق من أبسط العناصر المكّونة لشكل المدينة لتكتب عنها بالمحبّة ذاتها. «منارة بحر بيروت» مثالاً وهي التي قُصفت بصواريخ إسرائيلية في عدوان تمّوز 2006 تقول عنها «كان ينقص أن يقصفوا المنارة حتى لا تعود السفن تهتدي، حتى لا أعود أهتدي». وفي سيرة الحرب الإسرائيلية نفسها، سنجد أكثر من نص وهو يوّثق لما حصل في عدوان الـ33 يوماً و«بيروت التي تتدرب على التنفس ثانية».
وخلال كل هذا، تحكي صاحبة «استعد للعشاء» عن ناس بيروت، من تعرفهم ومن تضعهم المصادفات ليتقاطعوا مع يومياتها، فتروح صانعة من كل واحد منهم حكاية. هناك ذلك الأعمى الذي «يقرأ ويُشاهد أفلاماً»، والتقته على باب مكتبة تقع في شارع قريب من البحر لتكتشف كم أنه قد «امتلك جرأة الاقتراب من السعادة»، أو تستعيد ألم الصديقة التي استأصلت ورماً من صدرها وستأتي، بعد الشفاء، إلى موعد أول معها «بعرج خفيف جرّاء قطعة اللحم الناقصة التي انتُزعت من صدرها إلى الأبد».
ليس كل الكتاب عن بيروت وإن كان أغلبه عنها. مع ذلك، سنجد ذلك الباقي منه كما لو كانت صاحبته تبحث عن ثغرة لتحكي عن مدينتها التي «لا يضيع فيها أحد». هي حين تحكي عن باريس أو القاهرة مثلاً، نجد هذه الخبيرة في الطرب العربي وقد أحيت حفلات عدة في دار الأوبرا المصرية. نراها توازي المعنى الذي قالته المطربة أم كلثوم حين غنّت «ولما أشوف حد يحبّك يحلى لي أجيب سيرتك ويّاه». إنها هنا تعمل على اختراع ولو حتّى ثغرة صغيرة كي تدخل منها لتعاود الحكي عن المدينة التي تعرفها «عن ظهر قلب». وعلى العكس من مدن كثيرة يضيع زائرها إن لم يحمل خريطة، لا يحتاج الواحد في بيروت إلى خرائط، فهناك وعلى طول الخط منافذ إلى ما تريد الوصول إليه و«حلول تظهر في الأفق».