أطلقت أجهزة المخابرات والدفاع الأميركيّة مهنة عالميّة لـ «تاجر الموت» اللبناني سركيس سوغانليان. دشّن عهد تعاونه مع الحكومة الأميركيّة (بتسليح كثيف لميليشيات الزعماء الموارنة في لبنان) دوراً امتدّ الى مختلف بقع العالم، من أفريقيا إلى أميركا اللاتينيّة. ولم يعد الجيش اللبناني هو الأداة الضاربة للحكومة الأميركيّة واسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينيّة واليسار اللبناني. الرئيس اللبناني سليمان فرنجيّة اعترف ضمناً ان الميليشيات هي الصالحة للتعامل مع ظاهرة المقاومة الفلسطينيّة وحلفائها اللبنانيّين. وخلافاً لسرديّة ابتُدعت في ما بعد، لم يكن هناك كلام عن «الدفاع عن لبنان في وجه التوطين الفلسطيني». ولم يثر أحد من الزعماء الموارنة هذه الكلمة في تلك الحقبة، ولم يكن استجداء السلاح الأميركي تحت هذه اليافطة. بل كان الهدف المُعلن الدفاع عن نظام الهيمنة الطائفيّة المارونيّة، وإبقاء لبنان في حالة تحالف سرّي مع العدوّ الإسرائيلي. وكانت بداية الحرب الأهليّة تنفيذاً للطموحات الأميركيّة في الحرب الباردة ضد قوى اليسار العالمي.
هدّدت إسرائيل لبنان من نشر «الصاعقة» في الجنوب لـ «مساعدة فرنجية» على رفض عرض الأسد
الخطط الميليشاويّة لزعماء الموارنة واردة في الوثائق الأميركيّة. يتحدّث ألكسندر رافيو، في التقارير الأميركيّة المُفرج عنها، عن لقاءات له مع أجهزة استخبارات لبنانيّة في حينه. واسم رافيو هذا لا يرد في البحث على غوغل أو غيره، لأنه شهد في محاكمة عميل المخابرات الأميركيّة وتاجر السلاح الشهير إدوار ولسون، ممّا إدّى إلى تغيير هويّته بالكامل واختفائه من الوجود (القانوني المُعلن). لكن اسمه يرد في واحدة من وثائق «ويكليكيس» تعود الى عام ١٩٧٤، يقترح فيها على السفارة الأميركيّة في طهران (كمندوب عن جهاز حكومي أميركي لم يكشف عنه، علماً أنه كان يتحرّك تحت غطاء مندوب عن شركة «فيرتشايلد كاميرا») تطوير نظم التجسّس للسفارة ــــ خارج نطاق نظام التجسّس التابع للمخابرات الأميركيّة في إيران ــــ عبر الاستعانة بكاميرات وأجهزة متطوّرة شبيهة بنظام مماثل في السعوديّة في حينه.
في صيف ١٩٧٤، يلتقي روفيو (وكان على صلة وثيقة بأجهزة استخبارات ودفاع لبنانيّة)، بمسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة أثناء زيارة للأخير إلى لبنان، ويخبره أنه وصلت إلى مسامعه عفواً «مشاريع مسيحيّة» (ص. ١٣٣) لاستيراد ٥٠ ألف كلاشنيكوف بلغاري عبر سوغانليان للتحضير لهجوم «لإزالة الوجود الفدائي» من لبنان. أي ان الحكومة الأميركيّة (التي لا تُفصح في تقاريرها الديبلوماسيّة عن خططها) كانت على علم وثيق بالخطط الانعزاليّة لاشعال الحرب الأهليّة (بالتعاون مع حلفاء خارجيّين)، على افتراض ان الحكومة الأميركيّة لم تكن ضالعة في المخطط المذكور، وهذا مُستبعد. وذكر روفيو ان كميل شمعون هو الداعم لهذه الخطة، وانه سيزور وزارة الخارجيّة الأميركيّة في هذا الصدد عمّا قريب. واعترف فورست هنت (لا يذكر المؤلّف ستوكر صفته، لكنني سألته عن صفته في مراسلة فقال إنه كان الملحق العسكري في السفارة الأميركيّة في بيروت في حينه) في مقابلة مع ستوكر (ص. ١٣٣) أنه عمل بصورة وثيقة مع «المكتب الثاني» اللبناني، وأن الحكومة الأميركيّة قدّمت مساعدات إلى الميليشيات المذكورة قبل اندلاع الحرب الأهليّة عبر تسليحها، «بواسطة الأجهزة الأمنيّة وعبر وسطاء غير حكوميّين مثل سركيس سوغانليان». (ص. ١٣٣). ويحاول ستوكر في كتابه ان يبدو حياديّاً عبر الإشارة إلى تقارير صحافيّة عن تسلح مقابل لتنظيمات يساريّة وناصريّة على المقلب الآخر. لكن المؤكّد أن قيادة أحزاب الحركة الوطنيّة كانت تتجنّب خيار الحرب والتسليح بقرار التزم بأولويّة وحصريّة النضال السياسي البرلماني (الذي شغل في حينه أحزاب البعث والشيوعي). صحيح، كما يذكر الكاتب، ان هناك لبنانيّين شاركوا في مواجهات ١٩٧٣ بين المقاومة الفلسطينيّة والجيش اللبناني، لكن هؤلاء كانوا منضوين في تنظيمات فلسطينيّة (وكان ذلك مألوفاً في حينه وإن تنصّل معظم اللبنانيّين من ذلك في ما بعد على أثر انتشار النزعة الوطنيّة الشوفينيّة اللبنانيّة بعد «الطائف»). كما ان الكاتب يذكر دور «المرابطون» في معارك أيّار ١٩٧٣ متجاهلاً تاريخاً طويلاً لابراهيم قليلات في إطلاق مزاعم فارغة وبطولات وهميّة وتبجّح دعائي.
ويشير ستوكر إلى تقرير استخباري أردني أوصله مسؤولون لبنانيّون إلى المسؤولين الأميركيّين، وفيه تقارير عن تهريب «كميّات كبيرة من السلاح»، الخفيف والثقيل، إلى مدن في منطقة الشوف لتوزيعها على «مجموعات يساريّة بما فيها تلك التابعة لكمال جنبلاط ونجاح واكيم». لكن هذه التقارير مُبالغ فيها، وهي مشبوهة المصدر لأن الاستخبارات الأردنيّة واللبنانيّة كانت تريد ان تهوّل على الحكومة الأميركيّة حول خطر يساري مزعوم في لبنان للحصول على المزيد من السلاح. والمعروف ان كمال جنبلاط لم يخض الحرب الأهليّة إلا مُكرهاً، وكان دائماً يتفق مع ياسر عرفات على ضرورة تجنيب لبنان حرباً أهليّة (وهو حرصَ على تجنيب مناطق إقطاعاته ويلات الحرب). على العكس من ذلك, كان «البرنامج المرحلي» الذي أطلقه جنبلاط (بالتعاون مع جورج حاوي ومحسن إبراهيم) مشروعاً لإنقاذ النظام اللبناني، وليس لإسقاطه.
وعندما اعترفت الجامعة العربيّة (متأخرةً) بمنظمّة التحرير الفلسطينيّة كـ «ممثّل شرعي ووحيد» للشعب الفلسطيني في قمّة الرباط في ١٩٧٤، حاولت الحكومة الأميركيّة عرقلة هذا الاعتراف عبر رسائل من هنري كيسنجر إلى الحكّام العرب، بمن فيهم فرنجيّة، يطلب فيها منهم الإصرار على ضرورة احتكار النظام الأردني تمثيل للشعب الفلسطيني. لكن الأخير رأى في جوابه ان على المنظمّة تمثيل الشعب الفلسطيني خارج الأردن.
أمدّ الياس سركيس السفارة الأميركيّة بتقارير مفصّلة عن تحويلات ليبيّة عندما كان حاكماً للمصرف المركزي

اشتباكات الدكوانة

اندلعت اشتباكات في الدكوانة في صيف ١٩٧٤ بين الميليشيات الانعزاليّة وفصائل المقاومة الفلسطينيّة. واعترض تقي الدين الصلح، في لقاء مع الزعماء الموارنة، على العلنيّة في إنشاء ورعاية مخيمات التدريب التابعة لهم، وطالب بإغلاقها. استقال الصلح، وعيّن فرنجيّة رشيد الصلح (الأقرب إلى جنبلاط والحركة الوطنيّة) رئيساً للحكومة. وفي شهر أيلول، حذّر جوناثان راندل، مراسل «واشنطن بوست» الشهير، في مقالة له من قرب اشتعال حرب أهليّة في لبنان, ممّا أدّى إلى طرده من لبنان لمدّة ستة أشهر (راندل كتب واحداً من أوائل الكتب الأجنبيّة عن الحرب الأهليّة بعنوان «الذهاب إلى الحدّ الأقصى»، حمّل فيه زعماء الموارنة المسؤوليّة الكبرى عن الحرب). وكان فرنجيّة يستعين بالملك حسين كي يشكو أمره إلى الأميركيّين، وهو عبّر له عن شعوره بأنه «وحيد ومُحاصَر»، وشكا له معاناته من «ضغط سوري مدعوم من السوفيات، ومن سيطرة فلسطينيّة». وعرض الملك الأردني تقديم مساعدة عسكريّة عامّة على شكل تدريب. وقال السفير اللبناني في عمّان، عبد الرحمن الصلح (ابن سامي الصلح، الحليف الشمعوني في حرب ١٩٥٨، وشغل في ما بعد منصب الأمين العام المساعد للجامعة العربيّة)، للسفير الأميركي توماس بيكرنغ (أصبح لحقاً مندوباً لبلاده لدى الأمم المتحدة في عهد جورج بوش الأب)، انه «صديق قوي ودائم» للحكومة الأميركيّة، وإن له أصدقاء في بيروت يمكن ان يساعدوا في إبقاء لبنان «حرّاً من النفوذ السوفياتي وغير السوفياتي الشرّير»، مثل كمال جنبلاط وموسى الصدر، حسب قوله.

تعكّر العلاقات

تعكّرت العلاقة، لفترة، بين الحكومة الأميركيّة وفرنجيّة إثر وصول الأخير إلى مطار جون كنيدي في نيويورك (لمخاطبة الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة كناطق باسم الجامعة العربيّة في الحق الفلسطيني) في نوفمبر ١٩٧٤، عندما تعرّضت حقائب الوفد اللبناني الرسمي لتفتيش من قبل كلاب مدرّبة على التفتيش عن المخدّرات. اعتبر فرنجيّة الحدث إهانة شخصيّة له، لكنه لم يؤدِّ ــــ كما شاع في لبنان ــــ إلى قطع العلاقة أبديّاً بينه وبين الحكومة الأميركيّة. فلم يستمرّ انقطاع العلاقة أكثر من بضعة أشهر، عادت بعدها إلى سابق عهدها من التنسيق والتحالف. وعلى العكس من ذلك، فإن الذي اعتمر في صدره الحقد، كان السفير الأميركي غودلي ضد فرنجيّة. وكان غودلي يصف الرئيس اللبناني بعبارات من نوع «قائد جبلي بسيط وعنيد، وذو أفق ثقافي وخلفيّة علميّة محدودة». ولم يُعقد اجتماع بين فرنجيّة وبينه في بداية العام ١٩٧٥ وموعد بدء الحرب الأهليّة. لكن هذا لا يعني ان الحكومة الأميركيّة لم تكن تنسّق مع أجهزة الدولة المختلفة ومع زعماء الميليشيات في تلك الحقبة من البرود في العلاقة الشخصيّة مع فرنجيّة.
استمرّت طلبات الجيش اللبناني من السلاح الأميركي (حاول لبنان الحصول على سلاح من إيران التي رفضت ذلك). لكن الحكومة الأميركيّة لم تكن في وارد تقديم هبات. ولم يكن السلاح الأميركي (الذي كانت السفارة تحثّ على تقديم البعض منه) إلا رمزيّاً وغير صالح لردّ العدوان الإسرائيلي المستمرّ على لبنان. وبات القلق حول مصير النظام في لبنان يساور الحكومة الأميركيّة بحلول عام ١٩٧٥. وعندما عرض حافظ الأسد في يناير ١٩٧٥، في لقاء قمّة في شتورة، على فرنجيّة نشر قوّات لمنظمّة «الصاعقة» في الجنوب اللبناني للدفاع عن لبنان بوجه العدوّ الإسرائيلي، ردّ وزير الدفاع الإسرائيلي شمعون بيريز أن إسرائيل لن تبقى «غير مكترثة» لنشر قوّات أجنبيّة في لبنان. وأبلغت الحكومة الاسرائيليّة واشنطن ان هدف التهديد الإسرائيلي مساعدة فرنجيّة على رفض العرض السوري. وحذّرت السفارة الأميركيّة من عواقب ما يجري في لبنان وخشيت على قدرة هذا البلد (تحت تأثير العواصف) على «البقاء دولة مستقلّة ذات سيادة».

اغتيال معروف سعد

تابعت الحكومة الأميركيّة الأوضاع في لبنان لدى تعرّض معروف سعد لاطلاق نار، في شباط ١٩٧٥، اثناء تظاهرة سلميّة ضد شركة «بروتيين» التي كان كميل شمعون رئيساً لمجلس إدارتها. وأشار تقرير للسفارة الأميركيّة نقلاً مصادر استخباريّة (أميركيّة) الى «دور منضبط» للنظام السوري في أحداث صيدا، وأن أوامر صدرت إلى منظمّة «الصاعقة» للانسحاب من محيط صيدا لتجنّب الاشتباك مع الجيش اللبناني. لكن التقرير أورد ان قيادة «الصاعقة» لم تكن تستجيب بصورة ظاهريّة لتلك الأوامر.
اندلعت الحرب وارتكبت ميليشيات الكتائب مجزرة عين الرمّانة الشهيرة. ويناقض المؤلّف ستوكر نفسه في الرواية هنا. إذ انه يُردّد بأن الحكومة الأميركيّة كانت منصرفة عن لبنان لانشغالها بمواضيع الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. لكنه يعترف بأن لبنان كان موضع بحث في البيت الأبيض على أعلى المستويات في ١٤ نيسان، أي بعد يوم واحد فقط من الاندلاع الرسمي للحرب الأهليّة. فقد اجتمع الرئيس فورد وكيسنجر مع سفراء أميركا في مصر وإسرائيل والأردن وسوريا، وسأل فورد في الاجتماع عن اهميّة الصراع في لبنان. ويُدلِّل ستوكر على نظريّته في هامشيّة الموضوع اللبناني على صانعي القرار في واشنطن، بالإشارة إلى غياب السفير الأميركي في لبنان عن الاجتماع. لكن لبنان كان عند الاميركيّين موضوعاً متفرّعاً من موضوع الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، كما ان المشاركة الأميركيّة في الصراع اللبناني المُسلّح كانت عسكريّة ــــ استخباريّة لا ديبلوماسيّة. وكان الملف اللبناني ورعاية الميليشيات في عهدة أجهزة الاستخبارات والدفاع. وكان تفسير كيسنجر لاندلاع الحرب في الاجتماع المذكور شديد التعاطف مع اندلاعها، إذ قال إنه فهم أن «اللبنانيّين يحاولون بسط السيطرة على فتح لاند». (ص. ١٤٤). وفي اليوم نفسه (التالي لمجزرة عين الرمّانة) التقى السفير غودلي مع فرنجيّة في مستشفى الجامعة الأميركيّة، حيث خضع الأخير لعمليّة جراحيّة. وليست هناك وثيقة عن طلب آخر للتدخّل العسكري الأميركي، كما كانت الحال في بداية عهد فرنجيّة. ولم تكن رسائل الخارجيّة الأميركيّة تتطابق، بالضرورة، مع الدور الأميركي السرّي في دعم وتسليح ميلشيات الموارنة. على العكس، كانت الوزارة في تعليقها على تحليل السفارة تعبّر عن قلقها من أخذ قادة الموارنة الانطباع بأن الحكومة الأميركيّة كانت بالضرورة تدعمهم في القتال الأخير. لكن هل كان هذا الموقف تعبيراً عن دهشة اميركيّة من وحشيّة الحلفاء الذين كانوا لسنوات يحظون بدعم أميركي مباشر وغير مباشر؟ الجواب مستحيل في غياب إقران الوثائق الأميركيّة المُفرج عنها بوثائق من المخابرات الأميركيّة التي كانت تلعب الدور الرئيس في رعاية تلك الميليشيات.
لكن الدعم والتسليح للميليشيات الماورنيّة لم يكونا حكراً على الأميركيّين. فالمصادر العبريّة تعترف بتسليح اسرائيلي أيضاً، وبلقاءات عُقدت لهذه الغاية في روما وباريس بين مندوبين لقادة الميليشيات ومسؤولين إسرائيليّين (اعتمدت كريستين شولتز، مؤلّفة كتاب «ديبلوماسيّة إسرائيل السريّة في لبنان»، على شهادات لديفيد كيمحي ورالف إيتان في كلامها عن اتصال مبكّر بين العدوّ الإسرائيلي وحزب الكتائب. وكان كيمحي ضابط الاتصال، وهو الذي رئِس في ما بعد وفد بلاده في المحادثات التي أنتجت اتفاقيّة ١٧ ايّار ــــ أي ان الاتصال سبق رواية جوزيف أبو خليل عن مغامرة «المركب في عرض البحر» ــــ راجع كتاب شولتز، ص. ٨٦). ومن المؤكّد، بحسب الوثائق، ان الميليشيات الانعزاليّة تلقّت السلاح والمساعدات أيضاً من مصادر في الأردن وأوروبا. إلا أن موعد بدء التسليح الأردني والأوروبي غير معلوم. لكن من المرجّح ان يكون قد بدأ عام ١٩٧٣، او قبله، عندما تحوّل التعويل الغربي والعربي الرجعي عن الجيش اللبناني إلى الميليشيات اليمينيّة للقضاء على الفدائيّين. وفي أيّار ١٩٧٥ (أي في مرحلة مُبكّرة جدّاً من الحرب سبقت زيارة جوزيف أبو خليل إلى إسرائيل في آذار ١٩٧٦ بحسب روايته)، تلقّى حزب الكتائب مدافع من عيار ٨١ ملم من إسرائيل. وأكّدت وكالة الدفاع الاستخباريّة، التابعة لوزارة الدفاع الأميركيّة، في تقرير لها أن أخبار التسليح الخارجي للكتائب «موثوقة»، وجزمت بتلقّي الكتائب تمويلاً من نظام الشاه الإيراني وعلى في المقلب الآخر، كانت التقارير تشير الى تحفّظ ياسر عرفات وتجنّب «فتح» الانخراط في الصراع، وعن مشاركة من قبل فصائل «جبهة الرفض» الفلسطينيّة.
نوّه الدبلوماسيون الأميركيون بدور دمشق «البنّاء» فيما حذر كيسنجر من تدخّل عسكري سوري

نظام يساري خاضع للمسلمين

في تقرير للمخابرات الأميركيّة في ربيع ١٩٧٥، توقّعت الوكالة ان يكون النظام اللبناني الجديد، في حال سقوط نظام فرنجيّة، يساريّاً خاضعاً لنفوذ المسلمين، وأكثر تعاطفاً مع الفلسطينيّين والدول العربيّة «الجذريّة». كما توقّعت احتلالاً إسرائيليّاً «طويل الأمد» لقسم من لبنان في حال حدوث تدخّل عسكري إسرائيلي (ص. ١٤٩). وقتل العدوّ الإسرائيلي في ٢٥ أيّار سبعة جنود من الجيش اللبناني، وطلبت الحكومة الاسرائيليّة من واشنطن إبلاغ الحكومة اللبنانيّة بأنها كانت تستهدف الفدائيّين فقط. غير أن الحكومة الأميركيّة طلبت من إسرائيل إبلاغ لبنان بذلك مباشرة في اجتماعات لجان الهدنة.
ولاحظ ستوكر فروقاً في تقييم الدور السوري بين هنري كيسنجر والديبلوماسيّين الأميركيّين في الشرق الأوسط. فقد نوهّت التقارير الأميركيّة من دمشق وبيروت بالدور «البنّاء» للديبلوماسية السوريّة بهدف إحلال الاستقرار في لبنان. وأبلغ مستشار حافظ الأسد، أديب الداوودي، السفير ريتشارد مورفي أن الدعم السوري للفدائيّين ليس مطلقاً. وتحدّث السفير غودلي عن موقف صارم لعبد الحليم خدّام تجاه ياسر عرفات لعدم تعاونه مع الحكومة اللبنانيّة في السيطرة على أتباعه. فيما كان كيسنجر يحذّر من احتمال تدخّل عسكري سوري في لبنان.
والطريف ان الياس سركيس، حاكم المصرف المركزي آنذاك، كان يمدّ السفارة الأميركيّة في بيروت بتقارير مفصّلة عن تحويلات ماليّة ليبيّة من لبنان ــــ في خرق فاضح لقوانين السريّة المصرفيّة التي لم تسرِ يوماً على الأميركيّين ــــ من دون رصد تحويلات ماليّة إسرائيليّة أو أوروبيّة أو إيرانيّة أو أميركيّة أو أردنيّة لحساب الانعزاليّين. (يرد ذكر تحويلات سعوديّة وعراقيّة في التقارير الأميركيّة).
ولم يلتقِ السفير الأميركي بفرنجيّة لمدّة ثلاثة أشهر، إلى ان اصطحب في زيارته السناتور ويليام فولبرايت في تموّز ١٩٧٥. وعلّق غودلي على اللقاء قائلاً انه «صُدِم لمشهد الرئيس» وإنه كان اثناء الاجتماع «غير يقظ على الاطلاق»، وغابت عنه روح الفكاهة وأنه في لحظات «شرد في النظر نحو البعيد». وعلّق غودلي في لقاء آخر ان مشاكل لبنان تتخطّى قدرات فرنجية الذهنيّة، وأنه بازدياد يبدو كـ»زعيم مسيحي صغير وليس كرئيس للبنانيّين». وطوال فصل الخريف، كان غودلي يعلّق بأن الزعماء الموارنة، خصوصاً فرنجيّة وشمعون، متصلّبون وغير مستعدّين للوصل إلى حل وسطي.
وعاد الالحاح اللبناني في طلب مساعدات عسكريّة أميركيّة. فطلب كميل شمعون، بصفته وزيراً للداخليّة في حكومة رشيد كرامي، مساعدات عسكريّة لقوى الأمن الداخلي تتضمّن عربّات مصفحّة وناقلات جند. ووضع الصراع اللبناني في سياق الحرب الباردة، وأعلم الأميركيّين ان السفارة السوفياتيّة «تدعم الشيوعيّين واليساريّين»، بينما تفتقر الحكومة اللبنانيّة إلى دعم في «المعركة الأخيرة ضد اليسار اللبناني». لكن توصية غودلي أفادت بأن دعم قوى حكوميّة غير حياديّة يمكنه ان يطيل امد النزاع. إلا أن التسليح الأميركي كان يجري خارج نطاق الديبلوماسيّة الأميركيّة، وإن كانت السفارة الأميركيّة في بيروت على علم به.