القاهرة | حياة أحمد حجازي (1936ـــ 2011) هي الفن والاستغناء. منذ عقد، ترك شقته في القاهرة مغادراً إلى مسقط رأسه طنطا. وهي المدينة التي تركها أيضاً عام 1954 متخلياً عن امتحان البكالوريا، ومتمرداً على رغبة والده في إكمال دراسته من أجل الفن والصحافة. وخلال اقامته القاهرية، ترك «فرصاً وأموالاً وامتيازات وجوائز وأصدقاء وزملاء ونساء وكتباً وكراسي وملابس ومكاتب وثلاجات ومواقد...»، حسب تعبير صديقه الفنان الراحل محيي الدين اللباد.
هكذا كان يفر من «الشهرة». لم يكن يتقمّص «حجازي» كما كان يوقّع رسومه، دور الـ«رسام» سوى عندما يجلس أمام ريشته، فرّ من العمل في «الأهرام» أيام محمد حسنين هيكل، وعمل شهرين في «أخبار اليوم»، وتركها بإرادته. كان يخشى أن يشاهد رسومه مليون شخص. جلّ ما كان يريده هذا الرجل البسيط هو الجلوس في المقاهي من دون أن يشير إليه أحد أو يستوقفه. عندما سأل حجازي الرسام جورج بهجوري: لماذا ترسم نفسك كثيراً؟ أجاب بهجوري: «لازم نبقى مشهورين». هنا، قال أحمد حجازي: «لسنا نجوماً ولا ينبغي أن نكون. يكفي أن يقرأ توقيعنا الآلاف». كان يحكي دوماً حكاية «الأباجورة» لكل من يسأله عن عزلته: إن «من يشتهر يبدو كأنه يقف تحت أباجورة مضاءة دائماً، ولا تصبح حياته سهلة. وأنا لا أحب الأباجورات».
في الثانية عشرة، لم يكن لدى الصغير حجازي أي ميل للحياة العائلية بصخبها والتزاماتها. كان يقرأ فقط، كانت تذكرة السينما في مدينته بـ«3 تعريفات»، يدفع «تعريفة» واحدة لا ليشاهد الفيلم، بل كي يسمح له عامل السينما بقراءة الكتاب تحت الإضاءة. وقتها «انشغل بعوالم غريبة» هي عوالم الفن. كان يعود الى البيت شارد الذهن، عندما سأله أبوه: «هل تريد أن تعيش وحدك؟» أجابه: «نعم»، وانعزل الصغير في إحدى حجرات المنزل ست سنوات كاملة، حيث القراءة الأدبية ومجلات الأطفال. قال لصديقه الوحيد اسحاق قلادة إنّ طنطا لم تعد تستوعبه، وشدّا رحالهما إلى القاهرة بهدف غزوها: أراد حجازي تحقيق حلمه كرسام، واسحاق بصفته روائياً. ومع صديقه الروائي، عاش في غرفة صغيرة في منطقة بولاق الشعبية، ودبّرا نفسيهما بميزانية بالكاد تكفيهما ثلاثة أشهر. كانا يترددان على المجلات الأدبية بحثاً عن عمل. وعندما نفد ما معهما، ناما لفترة في الحدائق العامة حتى وجد حجازي عملاً في جريدة «التحرير»، ثم انتقل إلى «روز اليوسف». هناك وجد يداً رحيمة. إنّه الفنان حسن فؤاد الذي كان يحسن اكتشاف الفن والموهبة في حامليها «حتى لو كانوا صبية قادمين من الأطراف» على وفق اللباد.
قبل ثورة يوليو 1952، كان الكاريكاتور مجرد أنماط وشخصيات أو مفارقات: يرسم رخا سلسلته الشهيرة «رفيعة هانم والسبع أفندي وسكران أفندي طين» مثلاً. لم يكن هناك نقد اجتماعي حاد. لكن بعد الثورة تغيّر الوضع. أحدثت الثورة زلزالاً في المجتمع، وقلبت التربة الاجتماعية. وكان لا بد من نشوء جيل مواكب لها في كل الفنون. وهذا ما حدث في «روز اليوسف». كانت ميزتها هذا التنوّع الشديد والحرية إلى أقصى حد. لم تكن مثل مدرسة «أخبار اليوم» حيث يُطلب من الرسام التعبير عن وجهة نظر الجريدة بل عن وجهة نظره هو. لهذا، كان الفنان ألكسندر صاروخان (1898 ــــ 1977) في «أخبار اليوم» مجرد منفذ لأفكار مصطفى أمين صاحب الجريدة. أما في «روز اليوسف» و«صباح الخير»، فكان كل فنان يتعامل مع أفكاره وآرائه هو، لا أفكار الجريدة. ولهذا لم يتحمّل حجازي أن ينتقل للعمل خارج «روزا».
في «روز اليوسف» كان كل رسامي الكاريكاتور من الطبقة الوسطى. رسومهم تقريباً تعبّر عن طبقتهم. وحده حجازي، كان من الطبقة المعدمة الفقيرة، ومن هنا، اكتسب تميّزه. للمرة الأولى، يحكي عن بشر يأكلون حول «طبلية على لمبة غاز»، وأطفال لا يرتدون ملابس. كان يرسم باختصار ما شاهده في حياته. الرسم مع الشعب، إذا استوحينا مقولة المعمار الكبير حسن فتحي «البناء مع الشعب». حتى المرأة المضطهدة، كانت تختلف عن المرأة المضطهدة بالنسبة إلى فناني جيله. من معاملة والده لوالدته استقى هذا النموذج. والده كان مضطهداً، لكن عندما يدخل البيت يتحول إلى «سي السيد». كان نموذجاً لـ«الغلبان المفتري». رغم أنّه يرى أنّ الكاريكاتور فن «شيطاني» لا يمكن تعلمه، إلا أنه كان دوماً يشير إلى صلاح جاهين بصفته استاذ جيله كله: «جاهين هو الذي أحدث النقلة الحقيقية في الكاريكاتور من الأنماط السائدة إلى كاريكاتور اجتماعي يدخل الحياة الشعبية ويرسم ناساً حقيقيين، لكن في الوقت ذاته هناك عوامل كثيرة فكرية وبصرية تؤثر في الفنان» على حد تعبير حجازي. وهذا ما وفرته له أيضاً «روز اليوسف». يقول: «في تلك الفترة كنا نتابع كل مدارس الكاريكاتور في العالم. لم تكن المشكلة في الأسلوب بقدر ما هي مشكلة حرية ليس لها حدود».
الحرية كانت كلمة السر لدى حجازي. لذا، عندما شعر بأنّ حريته مهددة اعتزل الكاريكاتور. وبعد سنوات، عندما شعر بأنه لن يضيف جديداً، قرر أن يعود في رحلة عكسية إلى طنطا وحيداً. لكن هل شعر بأنه فتح المدينة الكبيرة؟ ليس مهماً. الأكيد أنّه ترك على ضمير معاصريه، بصمته التي لا تمحى.