لا يزال التحرّك الشبابي مُستمرّاً وإن بوتائر مختلفة. السلطة الحاكمة لم تعد خائفة من التحرّك كما كانت عند انطلاقته. قد يكون نبيه برّي طمأنهم إلى أنّ الطائفيّة لا تزال الحامية للنظام اللبناني. والإعلام الحريري أصيب بالذعر في بداية التحرّك، لكنه سرعان ما اتبع طريقة المخاطبة بلسانين متناقضين: هو من ناحية لامَ، منذ اليوم الأوّل، «حزب الله» (بعد أن كان أتباعه على «فايسبوك» و»تويتر» قد لاموا حركة «أمل» لكن أوامر عليا تمنع التعرّض لحركة «أمل»)
وأطلقَ شتّى توصيفات الشغب والغوغائيّة على التحرّك الشعبي، لكنه أوعز إلى القطاع النقابي، في تيّار المستقبل، بإصدار بيان حازم يدين فيه الفساد ويطالب بالمحاسبة، لا بل إن تيّار الحريري أطلق في الأيّام الأخيرة حملة «بدنا»، محاولاً ركوب موجة التسميات «الفايسبوكيّة» لعلّ بريق التحرّك يصيبه بقبس منها. وبلغت الصفاقة بإعلاميّة حريريّة أن تصنّعت تماهياً مع مطالب الاحتجاج قائلة: بالفعل. سئمنا من الفساد، ومن وجوه الفساد. وسمّت فقط شربل نحّاس وحنّا غريب ونجاح واكيم وزاهر الخطيب. لكن إعلام بعض تنظيمات التحرّك يبدو خجولاً في التعرّض لتيّار الحريري (أم الفساد وأبوه) ولعلّ ذلك يعود إلى وشائج تربط بين البعض هنا بالبعض هناك. لكن استمرارية التحرّك تسمح بتسجيل بعض الملاحظات الأوليّة عليه:
أولاً: لماذا هذا الإصرار على كلمة حراك؟ قال ذلك غيري من قبل، لكن ألا تفي كلمتا «تحرّك» و»حركة» بالغرض؟ لماذا هذا الاعتناق الأوتوماتيكي لمصطلحات الأمم المتحدة، وما يقوم به مُترجموها من جهود لتوريد القيم والمفاهيم إلينا؟ «ورشة عمل» أو «تمكين» أو «جندرة» أو غيرها من الكلمات، كأن اللغة العربيّة كانت تفتقر إلى تلك المفاهيم قبل أن تقرّر ورش عمل في الأمم المتحدة صياغة مصطلحاتنا. كنّا في الأحزاب اليساريّة نعقد لقاءات واجتماعات وحلقات تدريب من دون أن نكون بحاجة إلى مصطلح «ورشة العمل». ثمّ ما الذي يتضمّنه مصطلح «حراك» ولا تتضمّنه كلمة «تحرّك» أو «حركة»؟ ما الذي يميّز الحراك عن التحرّك والحركة، وهي بركة؟ على ما يُقال؟
ثانياً: عدوى الحرب السوريّة. بسرعة فائقة انتقلت عدوى الحرب السوريّة إلى التحرّك الشبابي، وهو لم يبلغ بعد سن الرشد، ولم يصل بعد إلى السلطة كي يبدأ بمحاكمات مهداويّة. التقليد البعثي (السوري والعراقي) عريق للغاية: «كل خصم للنظام هو عميل وخائن ومرتزق». لا يرحم التصنيف البعثي البتّة.

الحكومة الأميركيّة تؤيّد حكومات وأنظمة كما تؤيّد معارضات لهذه الحكومات والأنظمة كي تتكيّف مع إمكانيّة التغيير
وما إن نشبت الحرب السوريّة بين النظام ومعارضيه، وحتى في مرحلة تشكيل قوى معارضة المنفى، التي كانت بداية (بما فيها الإخوان) تزعم أنها سلميّة حتى العظم، وحتى النهاية، حتى بدأ التصنيف المعاكس: كلّ مَن لا يتفق مع توجّهات قوى معارضة المنفى، أو بالأحرى، كل مَن لا يتفق مع النظام السعودي والقطري الراعي، هو شبّيح وعميل للنظام، وإن كان قد عانى في سجون النظام، وحتى وإن كانت سنوات معارضته للنظام تفوق أشهر المعارضة للبعض. في الأيّام الأولى، سارع البعض (وليس الكلّ) في «طلعت ريحتكم» إلى تصنيف المتظاهرين أنفسهم إلى «مندسّين» و»مشاغبين» و»زعران»، لا بل إن البعض في التنظيم دعا، على الهواء، قوى السلطة (وسمّى القائد الأمني بالاسم) إلى اقتلاع هؤلاء لأنهم لا ينتمون إلى مظاهرات تهتف بالحق البديهي في التظاهر. كانت هذه بداية للتصنيف والإقصاء والاستثناء. وفي جانب آخر، لجأ البعض في حملة «عالشارع» إلى تصنيف إعلاميّين أو كتّاب كـ»إعلاميّي النظام» (بمن فيهم مَن حمل سلاحاً بوجه هذا النظام) لأنهم وجّهوا انتقادات إلى شيء من توجّهات بعض القوى في التحرّك. وأصبح هذا التصنيف جاهزاً، إذ من غير المسموح المعارضة، أو المساءلة، أو المجادلة، أو المناظرة. إمّا الموافقة والهتاف، وإما التخوين والإلحاق بالنظام. وهذه التصنيفات باتت طريقة فعّالة للجم حالة صحيّة من النقد والنقد الذاتي. ولا ينبغي طلب رخصة من قبل «القيّمين» على التحرّك من أجل الحصول على إذن بالنقد، داخليّا كان أو خارجيّاً. لكن النزعة إلى رفض النقد المُوجّه إلى توجّهات أو شعارات أو حتى شخصيّات باتت سائدة. إن نظريّة المؤامرة القَطَريّة المُحرّكة للاحتجاجات الشعبيّة في لبنان (والتي أطلقها رسميّاً نهاد المشنوق) غير مُثبتة، وهي مهينة للآلاف من الشبان والشابات، الذين لبّوا نداء الاحتجاج على الفساد والظلم من قبل السلطة الحاكمة (لكن هذا لا ينفي عن النظام القطري أو السعودي نيّة ومشيئة التدخّل في لبنان وفي كل دولة عربيّة، أو ينفي علاقة النظامين، القطري والسعودي، بالإعلام اللبناني). لكن في المقابل، لا يمكن رفض مقولة إن هناك بعض الدول، مثل الحكومة الأميركيّة مثلاً، أو الحكومة السعوديّة، أو الحكومة السوريّة (في سنوات سيطرتها في لبنان) تتدخّل في كلّ شاردة وواردة في لبنان. كان الوزراء، بحسب «ويكيليكس»، يأتون إلى السفير الأميركي بملفات ووثائق حكوميّة رسميّة قد يعاقب القانون اللبناني على توزيعها على جهات أجنبيّة. إنّ الحكومة الأميركيّة، التي لها 80 قاعدة عسكريّة حول العالم، تحشر نفسها في ملفّات أصغر من ملفّات النفايات، وهي تستدعي قادة عسكريّين وأمنيّين، وتعطي رأيها في مسألة تعيينات وترقيات داخل المؤسّسة العسكريّة. الحكومة الأميركيّة تستعمل كل قرش تنفقه في أي دولة من أجل شراء نفوذ، تأخذ بعضاً منه طوعاً، والبعض الآخر عنوة، بطرق غير قانونيّة. تنفق الحكومة الأميركيّة، والمجموعة الأوروبيّة، مليارات الدولارات للتأثير في الثقافة السياسيّة، وفي النظام السياسي (والمعارضة) في كل الدول العربيّة. ودور منظمّات «المجتمع المدني» بات ملازماً لنشر النفوذ الغربي (جهاراً) في منطقتنا، من دون أن يعني ذلك أن كل منظمات «المجتمع المدني»هي مشبوهة، أو أدوات بالضرورة، خصوصاً أن المجال مفتوح لإنشاء منظمات «مجتمع مدني» لا تخضع لأجندات دول، ومصالح غربيّة، أو معادية (مثل لجنة الأسرى المُحرّرين من سجون العدوّ الإسرائيلي). لكن السؤال يبقى مشروعاً: لماذا، يا تُرى، ليس هناك من منظمّة «ngo» واحدة تنطق ضد التطبيع مع العدوّ، أو في تأييد مقاومة العدوّ بكل الوسائل، العنفيّة منها والنحاسيّة؟ ولماذا تتحدّث كل منظمّات الـ»NGOs» في بلادنا، من رام الله إلى طنجة، بنفس اللغة والخطاب والأسلوب، التي تتفق مع خطاب ولغة المجموعة الأوروبيّة، التي لا تريد إلا الخير… للعدوّ الإسرائيلي. أمّا القول إن التحرّك هو ناصع، ولا يمكن أن يكون في صفوفه فردٌ مُتسلّق أو «مندس» (الكلمة الأخيرة صدرت عن جماعة التحرّك أنفسهم في الأيام الأولى) فلا يستقيم مع تاريخ الحركات السياسيّة في بلادنا. ليس هناك أنقى من القضيّة الفلسطينيّة، لكنها أوت فاسدين ومتسلّقين ومُنتفعين، وحتى عملاء للعدوّ الإسرائيلي. (لقد وصل وليد قدّورة إلى مرتبة اللجنة المركزيّة في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، قبل أن يكشف أمن الجبهة أمرَه، إذ إنه كان مُخبراً لمصلحة «الشعبة الثانية». ويكشف عصام أبو زكي، في كتابه الصادر حديثاً، «محطات في ذاكرة وطن»، معلومات جديدة عن قدّورة، ويقول إن أبو أرز هو الذي جنّده، عندما كان الأوّل ضابطاً في الأمن العام اللبناني، ما يُعزز الشكوك حول دور للعدوّ الإسرائيلي في التجنيد). إنّ من مصلحة التحرّك، ومن مصلحة قياداته أن تتنبّه، وأن تبقى حريصة على سمعة الحركة ونقائها، لا أن توافق على مقولة الناشط إياد ريّا في «السفير» حيث كتب: «أمّا من يخشى علينا من مؤامرات السفارات، ويجلس ناقداً، وساكناً بين النفايات والمؤامرة، فهو خادم للسلطة، أراد ذلك أم لم يرد». وماذا عن محاولات من «14 و8 آذار» لاختراق التحرّك بهدف تخريبه، وشلّه؟ هذا كلّه يستوجب الحذر والريبة. والانقسام في صفوف تنظيمات الحركة لا ينبغي بالضرورة أن يكون ضارّاً، لا بل يمكن أن يكون ضروريّاً.

القول إن التحرّك هو
ناصع، ولا يمكن أن يكون في صفوفه «مندس» لا يستقيم مع تاريخ الحركات السياسيّة في بلادنا

ثالثاً: أين السياسة الخارجيّة؟ لماذا هذا الذعر من رفع شعارات السياسة الخارجيّة؟ تطرّقت مجموعة «بدنا نحاسب» إلى السياسة الخارجيّة، في إشارة إلى التدخّل الخارجي في شأن التحرّك، لكن هذا لا يكفي. ليست الطائفيّة هي وحدها التي ترعى النظام اللبناني، بل يرعاه أيضاً الرعاة الخارجيّون (المتمثّلون بالنظام السعودي والأميركي والمجموعة الأوروبيّة، إضافة إلى النظام الإيراني حاليّاً، الذي يتماشى مع نظرة حزب الله الداخليّة حول حفظ نظام الحكم). إنّ السفير الأميركي تدخّل، منذ الساعات الأولى للتحرّك، هو والسفير السعودي (المقياس هو دوماً المُطيع وليد جنبلاط، الذي دعا، في يوم واحد، شباب حزبه إلى المشاركة في يوم السبت الأوّل، وقال عن شباب حزبه «إنهم أحرار في قراراتهم») ثمّ عاد، بعد ساعات فقط، ليأمرهم بعدم المشاركة، لأنه اكتشف فجأة انحرافاً فيها) وهناك شخصيّات في التحرّك نفت التدخّل الأميركي، بحجّة أن الحكومة الأميركيّة تؤيّد الحكومة اللبنانيّة، وتؤيّد قوى الأمن والجيش. لكن هذا تبسيط لأدوار الحكومة الأميركيّة حول العالم: الحكومة الأميركيّة تؤيّد حكومات وأنظمة، كما تؤيّد معارضات لهذه الحكومات والأنظمة، كي تتكيّف مع إمكانيّة التغيير، وتتعامل مع احتمالات تداول السلطة. الحكومة الأميركيّة مستعدّة لاستغلال أي حدث لمصلحتها، كما أنها تكيّفت مع حكم «الإخوان» في مصر بعد أن ضمنت استمرار التحالف بين النظام المصري والعدوّ الإسرائيلي. وجيفري فيلتمان عقد جلسة لمجلس الأمن، من أجل التدخل في الشأن اللبناني (لماذا يصبح انتخاب رئيس في لبنان حالة تخصّ المجتمع الدولي، ولا يكون انتخاب رئيس، في السعوديّة مثلاً، أو في فلسطين، حيث يمنع «المجتمع الدولي» إجراء انتخابات رئاسيّة جديدة، خوفاً من فوز مرشّح «حماس»، حالة تخصّ «المجتمع الدولي» الحريص؟) وهذا يثبت مرّة أخرى أن من السذاجة الظنّ أنه يمكن القيام بانتفاضة عربيّة، أو حركة شعبيّة، من دون رفع شعارات سياسة خارجيّة. إن تحدّي السياسة الخارجيّة، كما بدا في مصر، هو الذي مدّد من أجل النظام العسكري هناك. لكن التحرّك الشعبي الحالي لم يرفع شعاراً واحداً في السياسة الخارجيّة، وهذا لا يبشّر. إنّ القضاء على النظام اللبناني القائم لا يمكن أن يتحقّق من دون ضرب الرعاية (السعوديّة ــ الأميركيّة) الفاسدة له. ثمّ، إنّ الخطر الإسرائيلي لم يخفت. منذ عام 1948، والعدوّ الإسرائيلي يصدر جهاراً تهديدات، شبه أسبوعيّة، بارتكاب جرائم حرب ضد مدنيّين في لبنان. ألا يشكّل هذا مصدر قلق وخوف لدى الشبيبة؟ هل بات الهتاف ضدّ العدوّ الإسرائيلي غير «كول» عند البعض؟ هل بات العداء للعدوّ الإسرائيلي عنصر انقسام؟ أم أن هناك مَن يمنع المجاهرة بالهتاف ضد العدوّ الإسرائيلي، كما أن هناك مَن يحمي «سوليدير» من غضبة الشعب؟
رابعاً: دور الإعلام. لقد دشّنت محطة «الجزيرة» عام 2011 إعلاماً جديداً، هو الإعلام المُقاتل، أو «الناشط»، فأزالت الفوارق بين المُراسل والناشط، في مصر وليبيا وسوريا خصوصاً. لا بل إن «الجزيرة» عمدت إلى تدريب (ناشطين ــ إعلاميّين)، وأصبح المقاتل في سوريا يمشي وفي يده بندقيّة وكاميرا. والمحطّات الإعلاميّة اللبنانيّة، أو بعضها، اختارت المُشاركة الفعّالة والنشطة في التحرّك الحالي، وكان مراسلوها من النشطاء في وسط البلد، وفي مواقع التواصل. لكن متى يجوز للوسيلة الإعلاميّة المشاركة في نشاطات تغطّيها تلك الوسيلة؟ في هذا العصر النفطي تقابل وسائل الإعلام الانتقاد لها، حول غياب التعاطف مع مقاومات العدوّ الإسرائيلي، بالاختباء وراء ستار الموضوعيّة والمهنيّة (وهي ليست إلا خدعة من أصحاب المال والسلطة، كي يضفوا شرعيّة على الدعاية السياسيّة). لماذا باتت العاطفة والانحياز ممنوعة في تغطية الصراع العربي ــ الإسرائيلي؟ ولماذا بات الانحياز مشروعاً في قضايا يختارها انتقاء صاحب المحطّة؟ لو أن صاحب محطّة ما اختار تسخير كل نشاط المراسلين والمراسلات لمؤازرة المقاومة، لكانت الاعتراضات قد صُبّت بسرعة من باب المهنيّة، بتعريف الـ»NGOs». ثمّ مَن يضمن لنا تغطية نقديّة إذا كان التأييد عنوان هذه المحطة أو تلك؟ وما تأثير العلاقات الاجتماعيّة بين أصدقاء على طبيعة التغطية؟ وهل كان ذلك أحد أسباب العداء الطبقي ضد شباب الخندق الغميق؟ لأنهم لم يكونوا من الشلّة؟ أو لأنهم لا يظهرون بشكل «نشطاء» كما قالت ندى أندراوس عزيز؟ وماذا عن التطبيل الإعلامي غير المهني؟ هل كل مظاهرة هي «حاشدة» ومليونيّة (لم يعد ينفع النقاش في حجم المظاهرات في لبنان، وعليه يجب أن نُجمع على أن كلّ مظاهرة في لبنان هي مليونيّة)؟ هل ستجرؤ بعض المحطّات على الاعتراف بأن تظاهرة ما كانت هزيلة، لو حدث ذلك؟ أم أن المكابرة، والمبالغة (وعزف الكمان أثناء عرض مشاهد الاحتجاج) باتتا من ضرورات الإخراج التعبوي؟
خامساً: هل مات اليسار في لبنان؟ لا شكّ في أن اليسار الذي انبعث في لبنان في التسعينيات، بعد اندثار الاتحاد السوفياتي، هو ليبرالي أكثر مما هو يساري. حتى إن خطاب ومطالب الحزب «الشيوعي اللبناني» الحالي لا تحيد عن سقف المطالبات الليبراليّة (هي حتى إصلاحيّة، إذ إنها تفيد تجميل النظام، وإكسابه المزيد من الشرعيّة، بدلاً من دكّه دكّاً، واستبداله بنظام اشتراكي. الكلمة الأخيرة باتت مُنفّرة في الوسط اللبناني، حيث تنبذ أطياف المجتمع المدني شعارات ومصطلحات الماركسيّة والاشتراكيّة، كأنّ اليمين والليبراليّة اليمينيّة يحتكران خطاب المجتمع المدني). «المجتمع المدني» تحوّل في لبنان إلى العضو المستتر في حركة «14 آذار»، التي تجتمع وتصدر البيانات باسم «تنظيمات المجتمع المدني»، وكأن «المجتمع المدني» يُختصر بتيّار واحد فقط. لكن تلك التيّارات التي تنطق باسم «المجتمع المدني» هي تلك التي تستحق أن تحظى برضى الغرب، الذي يطوّع «المجتمع المدني» في العالم العربي، أو قل، وقولي، إنه يحاول حثيثاً، ليس فقط عبر تمويل مَن يشاء، بل عبر خلق منظمّات من دون رقيب أو حسيب قانوني.
إن الحكومة الأميركيّة، وحكومات أوروبا، تُخضع الإنفاق الخارجي لمراقبة ومحاسبة، وحظر دقيق جدّاً، وفق معايير سياسيّة (تستطيع مثلاً حكومة الإمارات أن تنفق نحو 14,2 ميلون دولار أميركي، في سنة واحدة، من أجل تحسين صورة النظام الإماراتي في أميركا، ويستطيع السفير الإماراتي أن يتبرّع بـ150 مليون دولار لمصلحة مستشفى أطفال أميركي. لكن الحكومة الليبيّة لم تستطع، في الثمانينيات، أن تمنح وقفاً أكاديميّاً، لمصلحة كرسي يتبوّأه هشام شرابي في جامعة جورجتاون).
لماذا لا يرفع اليسار اللبناني إلا عناوين ليبراليّة؟ المحاسبة، والانتخابات، ومحاربة الفساد، ليست إلاّ عناوين ليبراليّة عامّة، لا تزعزع من بنيان النظام الرأسمالي. ما معنى المحاسبة في نظام فاسد؟ مَن يقوم بالمحاسبة؟ وهل القضاء في نظامنا، الفاسد، صالح لإجراء محاسبة؟ وهل نقل ملف النفايات إلى البلديّات التابعة للفاسدين ينهي الفساد؟ ولماذا يخجل اليسار اللبناني بماركس؟ ولماذا تعلق في حلقه كلمة اشتراكيّة، فلا تخرج، خوفاً من إغضاب الطبقة الحاكمة؟ إنّ اليمين الرجعي في لبنان نجح في التهويل ضد اللغة الخشبيّة (التي تخيف الطبقة الحاكمة)، فأصبح الحديث عن الفقراء ممنوعاً. لقد كتب عامر محسن عن غياب مضمون العدالة الاجتماعيّة في الشعارات المرفوعة، كما شرح فوّاز طرابلسي، في مقابلة على «إل.بي.سي.» أنّ محاربة الفساد الحقيقيّة تكون عبر محاربة الرأسماليّة، وليس عبر تعريف الفساد الذي يروّجه البنك الدّولي، وتتلقّفه منظمّات «المجتمع المدني».
سادساً: عن الشعارات. هذه الشعارات لا تفي بالغرض. إنّ شعار «من أين لك هذا؟» لا يكفي، لأنه عقيم من دون رفع السريّة المصرفيّة، ومراقبة حسابات مصرفيّة في دول عدّة. كذلك فإن الشعار يستحق أن تعاد صياغته وفق: «من أين لكَ أنتَ وزوجتك وأولادك هذا وذاك؟» كذلك أيضاً فإن القانون الحالي يطلب من النائب تقديم كشف حسوبات عن أمواله وممتلكاته، بعد الانتخاب، وعليه يأتي أصحاب الملايين بكشوفات يرد فيها أن النائب لا ثروة له، إلا عنزة في القرية ومئة دولار في دفتر توفير مصرفي. أما شعار إجراء الانتخابات (بعض «القيّمين» يرضون بانتخابات حسب قانون الستين كي يأتي تيمور بدلاً من وليد، وطوني بدلاً من سليمان) فهو ناقص حتى لو جرت على أساس النسبيّة في دائرة واحدة. إن المفسدة الكُبرى في آخر انتخابات (وكانت بلا منازع أسوأ انتخابات في التاريخ اللبناني) كمنت في الإنفاق المالي الهائل، الداخلي والخارجي، إضافة إلى تدخّل صفيق لسلطة دينيّة (البطريرك صفير، وخلال الفترة التي حُرّم فيها الإدلاء بتصاريح سياسيّة، لكن زياد بارود لم يلاحظ ذلك الإخلال الفظيع). مَن سيحدّ، وكيف، من الإنفاق السعودي، أو الأميركي أو الإيراني؟ مَن سيحدّ من النفوذ الهائل لأصحاب المليارات في الحياة السياسيّة اللبنانيّة؟
ولماذا ليس هناك من هتافات ضد أصحاب المصارف؟ وضدّ رياض سلامة، الذي يمثّل عمله أكبر انتهاك للسيادة، من خلال تنفيذه الصارم للأوامر الأميركيّة في محاربة «الإرهاب» المالي؟ ليس صحيحاً أن لا نظام كي يُسقط في لبنان، كما يروّج كتّاب الحريريّة. طبعاً هناك نظام في لبنان، ونفي ذلك بدعة ملائمة طبقيّاً، لكن النظام متجذّر أكثر من أنظمة قائمة فقط على التسلّط العسكري. هذا يعني أن المطالبة بإسقاطه أكثر إلحاحاً. لكن الطبقة الحاكمة ليست «سياسيّة» كما يتردّد في الهتاف، بل سياسيّة ــ اقتصاديّة ــ اجتماعيّة: هي نتاج المصالحة بين الجاه والثروة والسلطة.
سابعاً: لماذا هذا الإفراط في الوطنيّة اللبنانيّة، والإصرار على رفع الأعلام اللبنانيّة؟ هل هذا إعلان مبطّن ضد اللاجئين السوريّين والفلسطينيّين في لبنان كي يبتعدوا؟ مَن علّمنا في لبنان التظاهر والاحتجاج والثورة المُسلّحة غير الشعب الفلسطيني؟ وباتت التظاهرات مناسبة لإعلان اعتناق الشوفينيّة اللبنانيّة، وهذا يسري على طرفي النزاع في لبنان، وعلى هؤلاء الذين هم فوق السياسة، أو تحتها. لقد كان اليسار الشبابي، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، يطرح وجود الكيانيّة اللبنانيّة، بحدّ ذاته، على المشرحة، لكن هناك تسليماً كلّياً اليوم، من قبل الجميع، بنهائيّة كيان زائل، لا محالة. لماذا لا يخرج اليسار الشبابي عن هذا الإجماع الكياني؟ لماذا لا يميّز اليسار نفسه في الشعارات، إلا قليلاً جدّاً؟ لماذا لا يكون اليسار جسوراً؟
إنّ التحرّك الشبابي في خطر، لأنّ السلطة تنبّهت، وقرّرت التصدّي بشتّى الوسائل. ونهاد المشنوق (متى ترتقي المطالبة بـ»محاسبته» إلى مطالبة باستقالته؟) هدّد بالقوّة. والنقاش في صفوف التحرّك، وحتى التنوّع والتعدّد في التنظيم، من السمات الصحيّة له. لكن التحذير من عواقب فشل التحرّك لا يعني أن الفشل حتميّ، بل إن منع الفشل يعتمد على الارتقاء بالمطالب والشعارات، وحتى وسائل الضغط، إلى درجات أرفع وأفعل من النضال، على أهميّة ما جرى ويجري، وإلاّ وقع التحرّك أسير الأسوار الأمنيّة، وهي واهية، لو أردتم وأردتنّ.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)