دمشق | في أوّل اجتماع للرئيس السوري بشار الأسد مع رجال عائلته بعد تولّيه مهام المنصب، حذّرهم من افتعال المشاكل وأفعال التشبيح. لم تلقَ التحذيرات آذاناً صاغية عند الجميع. بعض الأسماء التي يعرفها السوريون جيّداً، عادت إلى ما درجت عليه من إساءات وجرائم بحق النّاس والقانون. عند هؤلاء، البلاد مزرعة لا أكثر.
لا معنى لأيّ مؤسسة، ولا اعتبار لأيّ جهة. يؤمنون فقط بالسعي المحموم لزيادة الثروة وتوسيع النفوذ. سليمان الأسد من الجيل الجديد لهذا النوع. شاب يتمتع بسجل حافل من الممارسات البشعة وانتهاك القانون والكرامات، تحت ستار لقبه العائلي. إدمان، وإطلاق رصاص في شوارع اللاذقية، وملاحقة بعض الناس بشكل مرضي. أحدث التهم التي سجّلها سليمان باسمه هي القتل القصد. هناك إجماع على كونه المشتبه به الوحيد في قتل العقيد في الجيش السوري حسان الشيخ مساء الخميس الفائت. مفارقة مظلمة أن يقضي مهندس من مرتبات الدفاع الجوي، إثر خلاف مروري مع من اغتاله بدم بارد. لم يكن الشيخ خلف راداره، وهو الذي خضع لدورات تأهيل مكلفة في الخارج. فقط، تأخّر في إفساح الطريق لسيّارة ذات مظهر وقح قانوناً.
كالعادة، غرق الإعلام السوري في سبات الخوف. أكّد للمرّة الألف أنّه إعلام سلطة ومافيات، ولا علاقة له بالناس. الجريمة أثارت زلزالاً غير مسبوق على السوشال ميديا. انفجر الاحتقان الذي لم تعد تنفع معه حقن المورفين. إعلاميون كثر تجاهلوا خواء منابرهم، وكتبوا على صفحاتهم ما يعتمل في الصدور. والدة سليمان فاطمة مسعود هاجمته بحدّة، مطالبةً رئيس الجمهورية بمحاكمته، ومذكّرة بتاريخه الأسود حتى مع عائلته، لتتوجّه بالتعازي إلى عائلة الراحل. انتشرت صفحات كثيرة، من بينها «لا لإجرام سليمان الأسد»، و«معاً لمحاكمة عادلة لقتلة العقيد المهندس حسان الشيخ»، و«كلنا العقيد الشهيد حسان الشيخ». آخر التسريبات أكّدت صدور توجيهات عليا بالقبض على سليمان الأسد بأيّ ثمن. كالعادة، دخلت القضيّة ضمن البازار السياسي بين موالاة جريحة ومعارضة شامتة. هكذا، اضطرّت الفضائية السوريّة لاجراء اتصال هاتفي «شكلي» مع محافظ اللاذقية إبراهيم خضر السالم، كرّر فيه عبارات «القانون فوق الجميع» وما شابه. موالون ومعارضون امتعضوا من منشورات صفحة قناة «تلاقي» على الفايسبوك، قبل أن يتبيّن أنّها مقرصنة منذ فترة. لا جديد في موت الإعلام السوري، بل عمله ضدّ البلاد أيضاً.

وحدها إذاعة «شام. إف. إم» الخاصة تصدّت للحدث بكلّ وضوح وجرأة. أفردت تغطية خاصة ضمن «مسائية» أمس السبت للحديث عن تفاصيل الجريمة. مراسلها في اللاذقية سومر حاتم، تكلّم مع أخ الراحل، الذي أكّد رؤية سليمان الأسد يردي شقيقه أمام عينيه. نقل عن ابنة الراحل تعرّفها إلى القاتل، من خلال صورة سليمان. حاتم نقل وقائع تجمّع شعبي عند دوّار الزراعة في اللاذقية، لإشعال الشموع على روح الضحية، والمطالبة بالقصاص من القاتل. إذاً، يمكن إقامة تجمّع أو مظاهرة، من دون المساس بهيبة الدولة والتآمر عليها. خاطر مرّ بقسوة في ذهن أيّ متظاهر سلمي حالم، جوبه بالقمع بداية الحراك السوري. كذلك، أورد سومر حاتم معلومات حول محاولات «لم تمر» للتلاعب بضبط الجريمة، خصوصاً أنّ كل من تواجد في مكان الجريمة (دوّار الأزهري) شاهد المجرم بوضوح. زميلته في «شام إف إم» صفاء مكنّا، أجرت اتصالاً بمحافظ اللاذقية. لم تتردّد في طرح الأسئلة الملحّة، والضغط لمعرفة التفاصيل المتاحة. نطقت بلسان حال السوريين، حين أكّدت وقوع جرائم سابقة، أفلت فاعلها من العقاب. المحافظ تشبّث بلغة رسمية ذات صبغة قانونية. أخطأ باسم العقيد الراحل، وساق افتراضاً مضحكاً: «محافظة اللاذقية يطبّق بها القانون، كما أيّ محافظة في سوريا». جدّد التأكيد على بدء التحقيق، ومحاسبة الفاعل مهما كان اسمه أو لقبه.

في تأمّل الفاجعة، تحضر الأسئلة والتداعيات. ما هذا المكان؟ نحن في «أرض الخوف» داود عبد السيّد. لا شكّ أنّنا في «أرض المآسي» لآرسكين كالوديل. إنّها «القيامة الآن»، بوجه مختلف عن جحيم كوبولا. ها هو «كافكا على الشاطئ» في اللاذقية، متحدّثاً عن «الانمساخ». ليست «ووندرلاند» السوريّة كما وصفنا سابقاً. على الأقل، تحفة لويس كارول آتية من عالم الأطفال. هكذا، نهيم على وجوهنا في «منتزه الديناصورات» محاولين النجاة ثانيةً. نسأل «مقطوعي النفس»: لماذا لا تُنصَب مشانق المجرمين والفاسدين في الساحات العامّة؟ ألا يؤدّي ذلك إلى نصرة المظلوم، بل وزيادة شعبية الرئيس نفسه بين مؤيديه؟ ماذا عن أمثال سليمان الأسد، الذين يتحرّكون بحريّة تحت أنظار الجميع؟ كيف لميليشيات أن تنهب و«تعفّش» وتخطف وتسرق سيارات وتفرض أتاوات على طرق السفر؟ بالعودة إلى تفاهة الإعلام الرسمي الغارق في الجهل، والمكبّل بقبضات أمنية متضاربة، لم يلتفت إلى اعتقال الإعلامي علي الكنج ورفيقه الدرّاج رامي الخطيب على يد الأمن الجنائي في طرطوس منذ أيام، بسبب تقرير تلفزيوني على قناة «سما» عن الأكشاك وحقوق ذوي الشهداء. الحجّة البالية نفسها: المساس بهيبة الدولة. الكنج كتب على صفحته متهكّماً: «سيادتكم هناك في الحكومة: الشهيد العقيد حسان الشيخ قتله لا يمس بهيبة الدولة؟». السؤال الأخير لمسؤولي الإعلام الرسمي: بحق الجحيم، لماذا علينا أن ندفع رواتبكم من ضرائبنا؟