«الباحة الخلفية»
في اليمن، يدور الكلام على شؤون البلد كأنها شؤون داخلية سعودية. هناك إصرارٌ على أن تكون الإرادة السعودية حاضرة في كلّ ما يجري، من الاقتصاد والنفط، وصولاً الى التفاصيل القبلية، ويتمّ النظر لأي تفلّت من هذه الهيمنة كتهديدٍ مباشر للمملكة.
ماذا يحصل إذاً حين تبدأ هذه السطوة، التي دامت للرياض لعقودٍ، بالاهتزاز والتصدع؟ وحين تكتشف المملكة، مع سقوط منظومة السلطة والمصالح التي بنتها مع علي عبدالله صالح (و»ضبطت» عبرها اليمن منذ عام 1994) أنّها تواجه وضعاً جديداً، صعباً، وقد حان أوان دفع فواتير الماضي وأخطائه؟

تقدّم لنا وثائق الخارجية السعودية، التي سرّبتها منظّمة «ويكيليكس»، نظرةً «من داخل السفارة» السعودية في صنعاء عن مرحلة حاسمة ومصيرية من تاريخ العلاقات اليمنية ــ السعودية، تمتدّ من صدور «المبادرة الخليجية» وتسليم الرئاسة لعبد ربه منصور هادي، وحتى انفلات الوضع من يد الرياض وحلفائها، ودخول «أنصار الله» الى صنعاء، ثم الحرب المفتوحة. تعكس هذه الوثائق وعي المسؤولين السعوديين بانحدار موقعهم في «اليمن الجديد»، بعد «ثورة الشباب» وسقوط نظام صالح؛ وتعرض جهودهم، على مدى أكثر من سنتين، لمراجعة سياساتهم القديمة ورسم مشروع جديدٍ لهم في اليمن. ولعلّها توضح أيضاً أسباب فشل «المشروع» واندثاره.

انعطاف في المسار

في العاشر من آذار 2012، صدرت برقية من الديوان الملكي السعودي، ممهورة بختم الملك عبدالله بن عبد العزيز وموجهة الى وزارة الخارجية، متضمنة الأمر السامي رقم 20736. بعد التذكير بـ»الأهمية السياسية والأمنية والاستراتيجية» لليمن، يطلب الملك من وزير خارجيته «إفادة شاملة ومفصلة حيال تكثيف التواجد الدبلوماسي» في البلد، ولو استلزم الأمر استبدال السفير الحالي (علي الحمدان) بـ»شخصية أكثر ديناميكية».
توّجت البرقية عشرات المراسلات الرسمية التي تشكو حال النفوذ السعودي في اليمن، وتحلّل أسباب تردّيه، وتقترح خططاً لترميمه. الحليف القديم علي عبدالله صالح (الذي ظلّت الرياض تزوّده بطائرات خاصة لإجراء «رحلاته الرئاسية» حتى أوائل 2012) صار خصماً، تحاصره العقوبات الغربية وتبلغه المملكة ــ عبر الأميركيين ــ أنه ممنوع من دخول أراضيها؛ وقد ترك خلفه تركة سياسية معقّدة.
أمّا حزب «الإصلاح» (الإخوان) الذي طالما أدى ــ بالتنسيق مع الرياض ــ دور «المعارضة الداخلية» في نظام صالح فإن ولاءه، هو الآخر، لم يعد مضموناً. أولاد عبدالله الأحمر انتقلوا الى الرعاية القطرية، بحسب تقارير السفارة، مقابل مئات ملايين الدولارات؛ بل إنهم يعملون على تصعيد الاحتجاجات وتخريب «المبادرة الخليجية»، ويتفاوضون على اتفاق مع «الحوثيين».
بالتوازي مع سقوط حلفاء الرياض التاريخيين أو تأرجح ولاءاتهم، إثر الأزمة التي ضربت البلد و»أدت الى تغيير تركيبة نظام الحكم فيه»، انتبهت الخارجية السعودية الى أن «الاحتجاجات الشعبية التي استمرت لأكثر من عام (أفرزت) جماعات وتشكيلات مدنية جديدة… هي القوى الواعدة للتأثير في المستقبل». وهذه القوى، كلّها، معادية لسياسة المملكة، أو تقع خارج دائرة «احتوائها»: الحوثيون، الحراك الجنوبي، والقاعدة.

حلفاؤنا القبليون
تجار مخدرات
وسلاح ويستخدمون الحرب لابتزازنا


ما زاد الطين بلّة هو أنّ سقوط «واجهة الاستقرار» التي مثلها علي عبدالله صالح كشف هشاشة السياسة السعودية في اليمن، واعتمادها الحصري على حفنة صغيرة من نخبٍ لا شعبية لها. وبان أنّ المليارات السعودية التي أنفقت على الساحة اليمنية كانت عبارة عن استثمارٍ ارتجالي بلا تخطيط، لم يثمر تراكماً وذهب جلّه الى المكان الخطأ. هذا ما تقوله الخارجية السعودية في تقويم سياساتها. الشيوخ القبليون الذين كانوا من أهم مرتكزات السياسة السعودية، وأغدقت عليهم المخصصات والرواتب، اختيروا ــ على حد قول السفارة ــ من دون «تقويم واقعي لمكانتهم وقدراتهم»، فكانت من بينهم، مثلاً، «تشكيلات قبلية متورطة في تهريب المخدرات والسلاح». ثم بيّنت حرب صعدة، عام 2009، أنّ تأثير حلفاء السعودية القبليين «متواضع» وأنّهم، بدلاً «من حماية أمن وسلامة المملكة»، استعملوا الحرب «كوسيلة للابتزاز والحصول على الأموال».
تزيد الوثائق السعودية أنّ «مئات المشاريع» التي موّلتها المملكة في اليمن على مدى الأعوام الماضية «كان يستخدمها الرئيس السابق كدعاية انتخابية له»، ولم تستفد منها المملكة حتى على المستوى الإعلامي، أو لبناء رصيد شعبي بين اليمنيين. ولم يتم الإشارة إلى هذه المشاريع «حتى في التقارير الرسمية المنشورة في الصحافة الرسمية». بل إنّ بعض المال السعودي الذي صُرف في اليمن «استخدم ضد المملكة ولبثّ الكراهية ضدها، وخصوصاً لدى المجتمع المدني الذي ظلّ بعيداً عن أيّ اهتمام».

«المشروع السعودي في اليمن»

مع اعتراف السعوديين بحراجة وضعهم في اليمن، سياسياً وشعبياً، قام إجماعٌ «على ضرورة تغيير استراتيجية المملكة»، وانهالت الاقتراحات والخطط، من مختلف الدوائر، عن كيفية إحياء النفوذ السعودي، وتلافي أخطاء الماضي، ومنع سقوط البلد في أيدي قوى معادية.
«المشروع السعودي في اليمن لمواجهة المشروع الإيراني» هو عنوان لدراسةٍ قدّمتها رئاسة المخابرات السعودية، تهدف إلى إعادة تأسيس الاستراتيجية السعودية في اليمن على المدى البعيد، وتتضمن إعادة هيكلة الساحة السياسية، و»إنشاء حزب جديد» يجمع حلفاء الرياض ويحكم البلد، ضمن معادلة تستبدل نظام صالح وتناسب المصالح السعودية.
في برقية من وزارة الخارجية، جاءت بعد الأمر الملكي بأسبوعين، يقول الأمير عبد العزيز بن عبدالله إن «الأوضاع الحالية في اليمن تحتاج الى إعادة صياغة لدور المملكة من كل النواحي». ينصح أحد المسؤولين، عبر ملاحظة مكتوبة على الوثيقة بخط اليد، بجمع «القيادات والفعاليات» المؤثرة «ومن نستطيع الوصول إليهم»، و»بعد ذلك يقدّم برنامج للمساعدة وتوفير الإمكانات اللازمة لتكوين جبهة قوية في اليمن، تُمد بالدعم للقيام بما هو مطلوب لإيقاف المد الإيراني».
في موازاة مواجهة إيران، تشدّد مراسلات الخارجية والسفارة في صنعاء على أن المملكة لا تتحمّل مراكمة المزيد من الأعداء في اليمن، وأن «الأوضاع» تستلزم «احتواء كل الأطراف السياسية... حتى تلك التي لا تتوافق مع خط المملكة». تؤكد برقية أخرى ضرورة «التواصل مع كل الأطراف… بمن فيهم الحوثيون والحراك الجنوبي… لاحتوائهم من التدخلات الإقليمية (كإيران وقطر) والأجنبية».
اضافة الى ضرورة تبديل نمط التحالفات و»أن الانفتاح على الأحزاب والمجتمع المدني أصبح أمراً ملحاً وضرورياً»، أجمع المخططون السعوديون على الحاجة إلى إصلاح نهج السعودية في تقديم المساعدات والدعم المالي، فاقترحوا «التخلص من الطريقة القديمة» في إعطاء الدعم عبر الجانب الحكومي، وإقامة المشاريع باسم السعودية مباشرة، وتسويقها «بحيث يعرفها العامة في اليمن»، على أن «تلامس احتياجات الناس الطارئة، وهذا الأمر كفيل بكسب رضى الناس وتعاطفهم».

بين «المشروع» والواقع

تقدّم لنا الوثائق لمحةً فريدة عن سلوك المسؤولين السعوديين وهم يدافعون عن موقع بلادهم في ساحة تهتزّ من تحت أقدامهم؛ الّا أنها تشرح لنا أيضاً أسباب فشل هذه السياسات، وانفراط الحلف السعودي في اليمن، وتعثّر الخطة الخليجية والدور «الانتقالي» الذي رُسم للرئيس هادي.

أولاد عبدالله الأحمر انتقلوا الى الرعاية القطرية مقابل مئات ملايين الدولارات


تبدو السياسة السعودية كأنها تتكلّم بأكثر من صوت، لا انسجام بينها، وكلّ يعمل على حدة. لا يمكنك، مثلاً، أن تدعو الى «احتواء» كلّ القوى الشعبية والسياسية في اليمن، حتى تلك التي تعارضك، وأن تمارس، في الوقت نفسه، سياسات طائفية تقوم على «مواجهة المد الشيعي» و«الحد من النشاط الشيعي» والنظر الى الزيديين والحوثيين كأعداء عقائديين.
حاول السفير في صنعاء لفت نظر قيادته الى أن عقلية «الحرب الطائفية» لا تنطبق في اليمن، وأن «شيعة اليمن في غالبيتهم من أتباع المذهب الزيدي القريب من الاعتدال» وأن «الطريقة الحوثية تشكل كتيار ديني خطورة محدودة وليست بحجم التضخيم الإعلامي الذي تهدف منه بعض الجهات الى الابتزاز السياسي والمادي». فصدرت، بعد أقل من أسبوعين، برقية من الديوان الملكي تقترح استبدال السفير.
بالمعنى ذاته، من السهل أن يدعو السعوديون الى نظام مساعدات أكثر كفاءة، يخدم الشعب اليمني مباشرة ويبني صلاتٍ مع المجتمع المدني. غير أن التمنّي شيء، وامتلاك العقلية والبنية المؤسسية اللازمة لتنفيذ هكذا مخطط هو شيء آخر تماماً. على سبيل المثال، بنت السعودية أكثر من 18 كلية مهنية في اليمن، بكلفة تفوق الخمسين مليون دولار، لكنها ظلت بلا تجهيز ولا كوادر. عرضت مؤسسة ألمانية تعمل في اليمن أن يتم تفعيل هذه المنشآت ضمن إطار تعاون مشترك، وأن تدرّب الطواقم اللازمة؛ فكان جواب الخارجية السعودية الرفض، معللة رأيها بأن إدخال مؤسسة أجنبية الى إدارة المشروع سـ»يجيّره لصالحها ولألمانيا… من دون أن يكون للمملكة مردود في ذلك». ففضّلت الرياض، ببساطة، أن تبقى المنشآت على حالها.