لم يعد الخطر الداهم مسألة متعلقة بأوهام نظريات المؤامرة أو بقصص مخططات كيسنجر. كل الدول الكبرى، والإقليمية الأساسية، باتت على علم بالاتجاهات السائدة في المنطقة. بعضها بات يحكي صراحة في المحادثات المغلقة. بعضها الآخر ذهب أبعد في إيفاد المبعوثين وتحميل الرسائل وجس النبض. الكل بات متيقناً من أن وجه الشرق الأوسط سيتغير. الكل يُعدّ ويستعد ويحاول تحسين ظروفه ورفع الشروط. الأكيد أن المسودات الأولى لمرحلة الشرق الأوسط الجديد قد بدأت تخط على صفحات أولى معدة للرمي. بعدها ستأتي الأوراق الزرقاء الجاهزة للطباعة الدولية والأممية.
قبل أيام، كشف مسؤول روسي كبير، في حلقة خاصة، أن دولة خليجية أساسية، لم يسمّها، عرضت على بلاده مخططاً لتقسيم اليمن الحالي إلى أكثر من دولة. لم تبد موسكو بحسب قوله أيّ حماسة للفكرة، ولا أيّ تأييد. لكنه يجزم بأن خريطة لسبعة كيانات يمنية عرضت عليهم، بحيث لا تتعدى مساحة أي كيان منها ثمانين ألف كيلومتر مربع. هي أقرب إلى عملية تفتيت منها إلى التقسيم. بدا واضحاً أن هواجس كثيرة تتحكم في المخطط. الهاجس الأمني، والهاجس الاقتصادي، والهاجس الإتني المذهبي، وهاجس النفوذ الجيواستراتيجي لإيران على الضفة المقابلة... والأهم، هاجس خسارة حرب تورطت فيها تلك الدولة الخليجية هناك.
في المقابل، كان مسؤول إيراني رفيع يجزم في الوقت نفسه بأن بلاده كانت على علم بالمخطط المذكور، وبأنها رفضته. لا بل أبلغت واشنطن رفضها السير فيه، ملاحظاً أن المسؤولين الأميركيين لم يبدوا اهتماماً بالمشروع التقسيمي، ولا برفضه. اكتفوا، ودائماً بحسب الإيراني، بالطلب مباشرة من السلطات في طهران العمل على تأمين سلامة السفارة الأميركية في صنعاء. هل قصدوا الإيحاء لنظام الثورة الإسلامية بأنهم بهذا الطلب يعترفون بالنفوذ الإيراني في اليمن؟ أم أنهم أرادوا الغمز من قناة تحميلهم مسؤولية كل ما يقوم به الحوثيون؟ أم هو فتح لباب اليمن أمامهم من أجل توريط الإيرانيين في مستنقعاته، في مواجهة الانزلاق السعودي؟ لا يقدر المسؤول الإيراني على تحديد الغاية. لكن الأكيد أن الطلب الأميركي جاء على خلفية معرفة واشنطن بمشروع التفتيت اليمني المطروح، بمعزل عن احتمالات تنفيذه أو بقائه مجرد تنظيرات على ورق.
من جهة أخرى، يتابع المسؤول الروسي قراءته، العراق بات مقسماً فعلياً. كياناته الثلاثة باتت منجزة. كل ما بقي عالقاً هي تلك المساحة التي اقتطعتها لنفسها داعش. ما يكون مصيرها؟ خصوصاً بين العراق وسوريا. وكيف يؤثر مصير هذه الأرض وهذا التنظيم على صورة المنطقة المقبلة؟
كان المسؤول الروسي يتحدث في وقت متزامن مع خطاب أردوغان الأخير. خطاب الانعطافة التركية الإسلامية الأهم منذ اندلاع حروب المشرق. قال الرئيس التركي إن الخطر هو داعش، وإنه مستعد لدخول الحرب ضده. لكنه حذر من أن القضاء عليه قد لا يعني استئصال الإرهاب التكفيري نهائياً، إذ إن تنظيمات أخرى أكثر أصولية وأشد عنفاً قد تنبثق من هزيمة داعش، لافتاً إلى أن المعالجة الجذرية تكون بحسب رأيه بالتوجه صوب مصادر التكفير والتمويل والتسليح لمنظمات كهذه... من يقصد الرجل؟ واضح أنه يغمز من القنوات الخليجية. لماذا؟ هل علم بمخططات التقسيم المطروحة من خلف ظهر سلطنته، فقرر حفظ حصته في الطبخة؟ أصلاً، في هذا الوقت بالذات، كانت المساهمة التركية المباشرة في الحرب السورية تبدل موازين القوى في إدلب وجسر الشغور. البعض يقول إنها ستذهب أبعد. كأن أردوغان يتصرف على أنه شريك في عملية إعادة رسم الخرائط. وهو يمسك قلمه الأحمر الغليظ، ليخطّ قضمته. من الموصل، إلى أين في سوريا؟
زوار واشنطن من المسؤولين اللبنانيين ليسوا بعيدين عن الصورة السلبية التي هي قيد التظهير تدريجياً. يقولون إن هذا الصيف سيشهد فعلياً، وللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب السورية، إقامة منطقة حظر جوي في نطاق ما شمال البلاد. ستتولى تركيا فرضها. وستكون بداية فعلية لجر بشار الأسد إلى تسوية على الطريقة العراقية، أو اليمنية: أنت موجود في سوريا. لكنك لست وحدك.
هكذا تكتمل صورة مشاريع الفرز والضم الجديدة في المنطقة. قد تكون عبثية. وقد تكون مأساوية. لكن السؤال الأقرب إلينا، هو هل تصل تلك المشاريع إلى لبنان؟ متى؟ وكيف؟ أخطر ما في السؤال عجز أي مسؤول لبناني عن الإجابة، كما عجز أي مسؤول أجنبي عن الطمأنة. أخطر ما في السؤال أن كثيرين من زوار بيروت باتوا يسألون عن الفدرالية في لبنان. هل من فرصة لها؟ بأي صيغة وأي نمط؟ ماذا عن المشتركات الثلاثة: الجيش والخارجية والليرة، كيف تحفظ وحدتها في نظام فدرالي؟ الأسئلة صارت علنية. لكن الأخطر هو إحساس ما بأن تلك التغييرات، في حال وصولها، لا إمكان لإنضاجها على البارد. ثمة سخونة قد تكون مطلوبة. كل الاستقرار الشكلي الراهن قد ينتهي عند الإيذان ببدء الطبخة لبنانياً. سوريا نموذج واضح. العراق نموذج سبقه. اليمن سبقهما وتلاهما. ولبنان نفسه سبقها كلها، ولم يتعلم شيئاً. من يقدر على تجنّب كارثة كهذه، ولو فرضية؟ ميشال سليمان في جزئه الثاني؟ هيا، انتتخبوه فوراً، لكن تعهدوا أمام التاريخ والشعب بمسؤوليتكم عمّا سيأتي.