حدث في مثل هذا اليوم، أن التأمت الجلسة التشريعية بحضور 92 نائباً، 90 منهم صوتوا مع إقرار قانون جديد للإيجارات، دون أن يتكبّدوا عناء البحث في آليات وضع سياسات إسكانية تضمن حق السكن للمواطنين.منذ أوائل التسعينيات، والدولة تمعن في انتهاك حق السكن، سياساتها الإسكانية و»الإنمائية» والاقتصادية التي انتهجتها على مرّ السنوات جعلت من بيروت مرتعاً للمضاربات العقارية، مدينة طاردة لسكانها، تهمّشهم وتدفعهم نحو الأطراف.

53% من سكان المدن في لبنان يعيشون في أحياء عشوائية، حيث الظروف السكنية سيئة من ناحية الخدمات والبنى التحتية والبيئة، وفق دراسة المفوضية السامية للأمم المتحدة لعام 2005. وبحسب بعض المطلعين، تشير الأبحاث إلى أن نسبة المستثنين من سوق السكان تضاعفت في السنوات العشر الماضية، إذ لم ترتفع المداخيل والأجور بما يتناسب مع ارتفاع قيمة العقار. وفيما كان منتظراً أن يشكل وضع قانون جديد للإيجارات القديمة مناسبة لإرساء سياسة إسكانية شاملة تتحمّل الدولة خلالها تأمين هذا الحق بشكل متساوٍ بين المواطنين، اكتفت بتحرير المالك القديم من عبء إسكان المستأجر القديم، دون أن تتحمّل هي هذا العبء، لتكتفي في ما بعد بدور المتفرّج على الصراع الحاصل بين المستأجرين والمالكين.
وتصويباً للمسار التشريعي الذي أتى «مبتوراً عند إقرار قانون الإيجارات، ومبنياً على معطيات مجتزأة وغير صحيحة»، انطلقت أمس مبادرة بدء العمل على مشروع قانون الحق في السكن التي أعلنتها «المفكّرة القانونية» و»الجمعية اللبنانية-الاقتصادية» و»استوديو أشغال عامة».

تنفق الأسر 25% من ميزانيتها على المسكن ومشتقاته


وبحسب هذه الهيئات الثلاث، تهدف هذه المبادرة إلى «وضع حق السكن في مقدمة النقاش العام وضمان معالجته من دون تمييز أو اجتزاء للوصول إلى سياسة سكنية عادلة تأخذ في الاعتبار كامل أطياف المجتمع اللبناني».
يقول المدير المسؤول لـ»المفكّرة القانونية»، نزارصاغية: «صحيح أن قانون الإيجارات القديمة أصبح غير عادل منذ تدني قيمة العملة الوطنية منذ منتصف الثمانينيات، وصحيح أنه ضمن حق السكن بشروط غير متكافئة، فظُلم مالكون واستفاد منه مستأجرون من ذوي المداخيل المرتفعة جداً، ولكن في فترة إعداد القانون، كان يتعين أن يعاد تحديد الشروط بشكل عادل». إلا أن ما حصل، وفق صاغية، هو «تحرير المالك من عبء الإسكان من دون أن تأخذ الدولة على عاتقها هذا العبء، الا بشكل مجتزأ وملتبس مع ما يحتمل ذلك من أهداف خفية أو غير معلنة على صعيد الاستثمارات أو الفرز الطائفي والطبقي». وبالنتيجة، حسب صاغية، «تم تجريد المستأجر من ضمانة السكن المتمثلة بالتمديد القانوني من دون أن يعطى أي ضمانات بديلة موازية».
ولأن إقرار هذا القانون لم يرافقه أي خطة إسكانية، تعتبر هذه الهيئات أن العمل على قانون يضمن حق السكن يجب أن يسبق العمل بالقانون الجديد للإيجارات، من هنا كان اقتراح «إلغاء قانون الإيجارات الصادر في 2014 ووضع قانون مؤقت بتمديد عقود الإيجارات المبرمة قبل 23 تموز 1992، على أن يتضّمن أفكاراً تصحيحية إنصافاً للمالك القديم».
تقول الباحثة المدينية نادين بكداش، وممثلة «استوديو أشغال عامة»، إن العمل على قانون يضمن حق السكن في لبنان يجب أن يشمل محاور عدة أهملتها السياسات السكنية المتعاقبة على مر عقود، ومنها: سياسة عقارية تحدّ من أضرار المضاربات العقارية في أسعار الأراضي وتحفز عرض الشقق الشاغرة للإيجار وتوفير أراضٍ لمشاريع سكنية، إضافة إلى تأمين وسائل النقل بين المناطق وسياسة إنمائية متوازنة، مشيرة إلى «أنه في ظل غياب السياسات التوجيهية للبناء، تؤدي السياسات الإسكانية الحالية إلى طمس التاريخ الاجتماعي للمدن وضرب النواة الاقتصادية للأحياء التقليدية والاستخفاف بحقوق سكان المدينة من مساحات مشتركة وبيئة ملائمة للعيش تستوعب جميع أطياف المجتمع».
من جهتها، أشارت ممثلة الجمعية اللبنانية الاقتصادية كوثر ضاهر، إلى أبرز المشاكل التي تواجه الإسكان في لبنان، التي يعد غياب الاستراتيجيات الإسكانية في مقدمها. تقول ضاهر إن «الأزمة الإسكانية باتت الآن أكثر حدة مع تزايد عدد السكان وتزايد النزوح نحو المدن وتهميش مناطق الأطراف». وتلفت ضاهر إلى أن المعالجات الإسكانية الماضية اقتصرت على التعامل مع «ردود فعل» لمعالجة الأزمة الطارئة، مشيرة إلى أنه «لم يكن هناك يوماً معالجة جذرية مرتكزة على مخططات شاملة تأخذ في الاعتبار النمو الديموغرافي والتطوّر المديني». ولعلّ ارتفاع الأسعار واختلال آليات السوق هو من أبرز مظاهر «الخلل» الحاصل في آليات الإسكان الحالية. تقول ضاهر إن «أسعار الشراء مرتفعة جداً، ولا سيما بالنسبة إلى الفئات الاجتماعية ذات الدخل المتوسط التي لا تستطيع فعلياً أن تستفيد من آليات التمويل المتاحة حالياً». اللافت هو ما تلفت إليه ضاهر، وهو أن نسبة ارتفاع حصة إنفاق الأسر على المسكن ومشتقاته في لبنان هي من النسب الأكثر ارتفاعاً في المنطقة، «بحيث تصل إلى 25% من إجمالي ميزانية الأسرة».
ثمة بعض الاقتراحات المطروحة لمعالجة هذه المشاكل من قبل الجمعية، أهمّها إعادة النظر في الهيكلية الضريبية، بحيث تصبح أكثر تصاعدية، ولا سيما على الشقق والأملاك المبنية واستحداث ضرائب على الشغور العقاري لتحريك سوق البيع والإيجار، إضافة إلى «إعادة النظر في آليات التسليف، بحيث تطاول شرائح أوسع من السكان واستحداث برامج جديدة تحدّ من ظاهرة الاكتظاظ المديني»، و»تطوير سياسات إسكانية ترتكز على المعطيات الديموغرافية وتحديد الحاجات المستقبلية».
يسهل تنفيذ هذه المقترحات، متى انوجدت الإرادة السياسية، لإعادة الاعتبار إلى كرامة المواطن وجعل حقوقه من الأولويات، والتخلّي عن مبدأ «قدسية الملكية» وتقديمها على حق المواطنين في مدينتهم.