في «مدرسة المشاغبين»، كان أحمد زكي (1949 – 2005/ الصورة) هو الطالب «المختلف» عن بقيّة الأشقياء في الصف. يسخر منه عادل إمام (بهجت الأباصيري) في أحد المشاهد: «إنت مختلف، ووضعك مختلف. أنت واخد الدنيا من ورا ولا إيه؟». نعم، كان العبقري المصري مختلفاً عن كلّ مجايليه في الموهبة والرهافة والعفوية وحتى الشكل الخارجي. الشاب الأسود لم يكن ذلك الجغل الملائم لسينما تلك الفترة، مثل محمود عبد العزيز ونور الشريف.

عادل إمام تشبّث بالكوميديا كضمانة إلى الأبد. كلّهم تعكّزوا على مطابقتهم للمعايير بشكل أو بآخر، للحصول على الوقت الكافي للتثبيت والنضج و«التجوهر». وحده أحمد زكي، كان عليه إثبات نفسه منذ المشاهد الأولى. ونعم، كان آتياً من الوراء. قدم إلى العاصمة من «الزقازيق» في محافظة الشرقية. هناك، أمضى طفولة يتيمةً مع «أناس بسطاء بلا عقد عظمة ولا هستيريا شهرة» حسب تعبيره. اليتم في بيوت العائلة فرض الانزواء والهشاشة ومراقبة الناس بعين سمكة. مفاعيل تلك الفترة رافقته حتى الوداع الأخير بسبب سرطان الرئة في مستشفى دار الفؤاد. كان شديد التطرّف في أحاسيسه. يشعّ فرحاً، وينفجر ضحكاً، ويبكي كطفل صغير لأتفه الأسباب. عجينة من النوع الممتاز، وإسفنجة لا تشبع بين أيدي المخرجين. ياقوت صرف قابل للصقل إلى أيّ شكل أو شخص. الجندي المدهش في التقمّص في «البريء»، حتى أنّ عاطف الطيّب اعتقد أنّه عسكري يمشي في الطريق أثناء مجيئه إلى موقع التصوير. الضابط الغول في «زوجة رجل مهم»، والتائه في الفيلم الوجودي الآسر «أرض الخوف». الصعيدي الساذج في «البيه البوّاب»، والمطلوب للعدالة في «الهروب». الموظّف المطحون في «الحب فوق هضبة الهرم». المحامي الفاسد في «ضد الحكومة». في الأدوار البيوغرافية، لا يمكن نسيان أبهى تجسيد لطه حسين في مسلسل «الأيام»، والإبهار في «ناصر 56» و«أيام السادات» و«حليم».
كان زكي متفانياً في العمل حتى الاستهلاك الذاتي. التمثيل حياة بمعنى الكلمة وتوازن الأعصاب. محاولة الانتحار الشهيرة بعد استبعاده من «الكرنك» لعلي بدرخان، أحد الأدلّة على ذلك. نادر هو انغماسه الكليّ في الدور، حتى لو كان وجبة خفيفة. بحساسية وبساطة، كان بارعاً في حلّ الشخصية وتفكيك مراحلها. وفق منهجه، مرّ عبد الحليم بثلاث مراحل: الاعتماد على الإحساس بسبب نقص الثقة في البدايات، ثمّ الغرق في هذا الإحساس مع حركة الرأس والفيزيك الخارجي، وأخيراً استحضار الصورة مع الكلمة وتمثيل معناها في الغناء. إسماعيل في «عيون لا تنام» لرأفت الميهي، يمرّ بأربع نقلات في الإحساس: ولد عدواني كريه يصبح طفلاً عند وقوعه في الحب. بعدها، يتوحش من أجل المال، ثم يحاول الخلاص، قبل أن يفقد صوابه. التماهي يفسّر جرأة الممثّل التلقائية في الجلوس على سطح قطار منطلق، أو النوم في برّاد مشرحة. هكذا، ظهرت كل شخصياته بمنتهى الحياتية والاختلاف، حتى المستهلك منها. الموهبة الاستثنائية والمناخ الجديد إثر وصول السادات إلى السلطة، أنقذا «مستر كاراتيه» من تصنيف المنتجين الجائر بسبب الشكل الخارجي، وإن ببطء تدريجي مرهق. غالباً، كان الدور يصل إليه بعد المرور على عادل إمام ومحمود عبد العزيز ونور الشريف. هذا نفس سبب تفرّده لاحقاً، وفتح الباب أمام أسماء مثل يحيى الفخراني. تمثّل المصري البسيط فيه روحاً وسلوكاً وحتى تاريخاً. لذلك، كان الممثل المفضل عند مخرجي الواقعية الجديدة. تحت إدارة رأفت الميهي وعاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداوود عبد السيد، توهّج بطلنا في أداءات لا تُنسى. أحمد زكي هو البطل المصري المضاد الذي ينزف ويُقهر ويُنتهك، فيردّ بدمعة وضحكة ونكتة ساخرة. ليس مفاجئاً ما كان يحصل معه أثناء صراعه مع السرطان في المشفى. جاء رجل من الصعيد يريد التبرّع بكليته أو «خدوا أيّ حاجة» من أجل شفائه. كذلك، الفتاة التي عرضت التبرّع بإحدى رئتيها. فقدانه انسحب على كلّ بيت، وعصر قلب كلّ أم وأخت وحبيبة. مصر ودّعت جزءاً منها يوم 27 آذار (مارس) المشؤوم. تماماً كوداع أم كلثوم ونجيب محفوظ وفاتن حمامة.
بعد عشر سنوات على الغياب، يحضر «النمر الأسود» بكل راهنية وقوّة. في «هستيريا» عادل أديب، ركض زين هرباً من المتطرّفين في مترو الأنفاق. لم يكن يعلم أنّ هذا سيحصل بعد سنوات على المستوى الجمعي. «معالي الوزير» يبدو وديعاً مقارنةً بأصحاب معالي هذا العصر. لا يمكن لمقال أن يحيط بجلالة «الإمبراطور» وحضرة «البرنس». كلماته الشخصية قد تغني عن كثير من التوقع والتحليل. «اليوم علينا معالجة الإنسان. أنا لا أجيد الفلسفة ولا العلوم العويصة. أنا رجل بسيط جداً، لديه أحاسيس يريد التعبير عنها. لستُ رجل مذهب سياسي ولا غيره. أنا إنسان ممثل، يبحث عن وسائل للتعبير عن الإنسان. الإنسان في هذا العصر يعيش وسط عواصف من الماديات الجنونية، والسينما في بلادنا تظل تتطرق إليه بسطحية. هدفي هو ابن آدم، تشريحه، السير وراءه، ملاحقته، الكشف عمّا وراء الكلمات، ما هو خلف الحوار المباشر. الإنسان ومتناقضاته، أي إنسان، إذا حلل بعمق يشبهني ويشبهك ويشبه غيرنا. المعاناة هي واحدة. الطبقات والثقافات عناصر مهمة، لكن الجوهر واحد. الجنون موحد. حروب وأسلحة وألم وخوف ودمار. كتلة غربية وكتلة شرقية. العالم كلّه غارق في العنف نفسه، والقلق ذاته. والإنسان هو المطحون. ليس هناك ثورة حقيقية في أيّ مكان من العالم. هناك غباء عام وإنسان مطحون».