منذ عودة رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون إلى لبنان عام 2005، يبذل التيار الوطني الحر مساعي حثيثة لتبرئة الذمم من دون مقابل: قبيل انتخابات 2005 النيابية ــــ حين كان الـ»تسونامي» البرتقالي يأكل الأخضر واليابس ــــ بادر الجنرال إلى تبرئة ذمة النائب ميشال المر وإنقاذه من الغرق. لاحقاً، برّأ العونيون ذمة شركة طيران الشرق الأوسط وكبار المقاولين والقيّمين على صندوق المهجرين ومجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة وإدارة الكازينو من كل ما كانوا ينسبونه إليها. وما كادت انتخابات 2010 البلدية تطل حتى برّأوا ذمم مئات رؤساء المجالس البلدية من كل ما كانوا يتهمونهم به. كذلك بُرّئت ذمم الموظفين في وزارتي الطاقة والاتصالات، بعدما أتخم النواب البرتقاليون الشاشات بكلامهم عن «أزلام المر» في الوزارتين.
وبرّأ وزير العدل السابق شكيب قرطباوي الجسم القضائي والنيابات العامة وكل الإدارات المتصلة بوزارته من كل الفساد الذي كان الجنرال ينسبه إليها. وفي السياق نفسه، برئت ذمم مئات رجال الأعمال ممن فضلت الرابية استيعابهم بدل مواجهتهم. قبل أن يكتشف العونيون توافقهم مع الرئيس سعد الحريري على 95% من برنامجه السياسي، بعدما خاضوا الانتخابات على أساس التناقض المطلق بين برنامجيهما، ثم رأوا إبراءه مستحيلاً، قبل أن يبرئوه من جديد! وبعدما كان الرئيس أمين الجميّل لا يصل «إلى زناري»، بحسب الجنرال، وصل الأخير إلى منزل أحد الوسطاء للقاء الجميّل. واليوم، تبلغ اللعبة خواتيمها بتبرئتهم جعجع من كل ما اتهموه به.
اللافت في كل هذا أن فتح العونيين صفحات جديدة مع خصومهم لم يكن ثمرة تنازلات قدّمها هؤلاء. لم يقدم المر أضحية واحدة على مذبح «التغيير والإصلاح». وحين حان موعد رد الدين قبيل انتخابات 2008 الرئاسية، غادر التكتل بكل بساطة. وكان يكفي النائبين السابقين منصور البون وفريد هيكل الخازن أن يعرض عليهما الجنرال عام 2005 الانضمام إلى لائحته، ليقولا لكل عونيّ ينتقد أداءهما: لو قبلنا الدعوة العونية لكنا رمزين للتغيير والإصلاح. أما في «الصناديق الملعونة»، فقد حصل العونيون على مدير هنا وعضو مجلس إدارة هناك، وغير ذلك من فتات الفتات مقابل طيّ هذه الملفات التي يمثل فتحها أساس خطابهم الإصلاحي (السابق). لم يقابل الانفتاح العوني على المختارة بأي تعديل في مواقف النائب وليد جنبلاط من الرابية. ومن دون أي مقابل، أو أقله ورقة تفاهم، غدا «حليف الحليف»، الرئيس نبيه بري، حليفاً لا غبار عليه. وهذا ما يوحي بخطر كبير محدق بخطاب التيار وصدقيته إذا استمرت الأمور على ما هي عليه مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية.
في التيار الوطني
الحر وبين أصدقائه
من لا يحسب حساباً لمستقبل التيار


فمنذ إصدار عفو 2005، تفوق رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على خصومه بالتنظيم الحزبي وإدارة وارداته المالية الكبيرة. ومقابل اللجوء الغريب لخصومه إلى الدفاع المستمر عن النفس، متكلين على التبرير هنا والتسويات هناك، انبرى هو إلى الهجوم بعدما كلفته العناية الإلهية حماية الثوابت المسيحية. وفي مواجهة خطابه الهجوميّ وماكينته المالية والحزبية والإعلامية، لم يملك التيار الوطني الحر سوى تذكير الرأي العام مرة تلو أخرى بأنه سمير جعجع: من وثائقي «أو تي في» حول مجزرة إهدن، مروراً بالبحث عن مقبرة العسكريين الجماعية في حالات، وصولاً إلى الموازنة بين 48 صوتاً حصل عليها في جلسة انتخاب الرئيس وصوت واحد حصلت عليه جيهان طوني فرنجية. لم يضئ التيار الوطني الحر في السنوات العشر الماضية على القصور التشريعي والإنمائي لنواب القوات، ولا على انعدام إنجازاتهم الوزارية. أما سياسياً، فلم يتجاوز الهجوم العوني على خيارات القوات (المتناقضة مع ما يوصف بالثوابت المسيحية) حدود «التمريك» على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض التلطيشات النيابية والإعلامية. لم ينقض العونيون على نحو جدي على خصومهم، كما فعل هؤلاء حين تفاهم التيار مع حزب الله. (ويكفي في هذا السياق تخيل ما كانت القوات ستفعله لو كان العونيون من يأتمرون بأوامر السعودية ويهادنون أفواج التكفيريين بل ويبررون أفعالهم). مع ذلك بقيت الدفة الشعبية تميل لمصلحة العونيين. لماذا؟ لأنه سمير جعجع.
لم يترك جعجع وسيلة للخروج من هذه الأزمة إلا طرقها: مهرجانات ومؤتمرات صحافية وأفلام ودعاوى قضائية من دون أن يحقق سوى تقدم محدود. إلى أن جاء من يقنعه بأن ما من أحد قادر على فك هذه العقدة إلا من ربطها: ميشال عون. هكذا، على هامش الحوار بين عون وجعجع، باتت تتردد بين نواب التيار وأصدقائه ممن يزورون الرابية أسبوعياً لازمة: «وإذا كان سمير جعجع؟». صار هؤلاء من المرحبين بتكريس «الثنائية المسيحية»: بدل أن يكون عون زعيم المسيحيين الأوحد، في نظرهم، فيما جعجع قائد ميليشيا سابق يفوز بنائبين بقوته الشخصية في بشري ويمنّ عليه تيار المستقبل بسائر نواب كتلته، بارك هؤلاء (على مرأى الجنرال ومسمعه) تحويل زعيم القوات من لاعب ثانوي في الانتخابات الرئاسية إلى صانع رؤساء له الكلمة الفصل في انتخاب عون رئيساً. وجاهروا بتفضيلهم بقاء الرئاسة الأولى في ملعب عون وجعجع، على انتقالها إلى ملاعب أخرى. وصار نواب حاليون ووزراء سابقون يرددون، في مجالس خاصة، أنهم مع تثبيت حق المسيحيين في تسمية الرئيس، حتى لو أدى ذلك إلى تسمية جعجع رئيساً، في عراضة مذهبية تتجاوز كل تاريخ هؤلاء ومواقفهم السياسية.
من أوقع الجنرال في فخ المر يشارك اليوم في إيقاعه في فخ جعجع، وهو نفسه من قال له يوماً إن ميشال سليمان سيضع الموقع المسيحيّ الأول في تصرف زعامته المسيحية. يبرئ هؤلاء ذمة جعجع من كل ما علق بها دون أن يقدم الأخير شيئاً في المقابل. وغداً، حين تنتهي عراضة التفاهم ويجد جعجع مخرجاً لنفسه على غرار المر والحريري وجنبلاط وبري وغيرهم، سنجد من يسأل: لماذا يُمنع المراهق من الانضمام إلى القوات ما دام زعيم والده (عون) يجالس قائد القوات ويبحث معه في مستقبله الرئاسي؟ وكيف يمكن المراهنة مجدداً على ناخب كسروان ما دام بين العونيين من بات يقول إن جعجع وعون وجهان لقضية واحدة. والأهم: لماذا يكون جعجع متهماً بارتكاب جرائم قتل وصاحب رؤية سياسية فاشلة وحليفاً للإخوان تارة، وزعيماً مسيحياً تارة أخرى؟ لماذا يكون عراباً لاتفاق الطائف ومدمراً للقانون الأرثوذكسي ومفرطاً بحقوق المسيحيين قبل الظهر، وشريكاً أساسياً في انتخاب الرئيس بعده؟
بات واضحاً أن في التيار الوطني الحر، وبين أصدقائه، من لا يحسب أي حساب لمستقبل التيار. كل ما يعنيهم استفادتهم القصوى من اللحظة الحالية. ما هم أن يقايض التيار كل خطابه الإصلاحي بتسويات صغيرة تضمن بعض المكاسب هنا وهناك. ما هم أن يتحالف مع فلان وعلتان بعد كل ما اتهمهم به. وما هم أن يحول التيار بنفسه جعجع إلى زعيم مسيحي، ويوهم نفسه والرأي العام أنه شريك أساسي في اختيار الرئيس المقبل؟ غداً حين يواجه التيار الوطني الحر خصومه في الاستحقاقات المقبلة فاغراً فاه، ليس لديه ما يقوله عنهم سوى أنهم خانوا ثقتهم العمياء به، لن يجد بقربه من يصفقون له اليوم ويشجعونه.