هي المرة الأولى، تقريباً، التي تتجاوز فيها بلدية طرابلس خلافاتها الداخلية. عقدت، أول من أمس، جلسة برئاسة محافظ الشمال رمزي نهرا امتدت لساعتين، لتعلن، بالإجماع، رفضها إنشاء مرأب للسيارات في ساحة التل، وترحيبها بهبة تركية مقدّرة بـ50 مليون دولار لإنشاء قصر للثقافة والمؤتمرات مكانها. رفض البلدية للمشروع يقطع الطريق أمام «المندفعين» اليه، وتفيد المعلومات أن الجهات المؤيدة لإقامة المرأب هي جهات سياسية ومالية نافذة في المدينة. يقول أحد المتابعين إن «هناك إصرارا من قبل كل من وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس والنائبين محمد كبارة وسمير الجسر ومجلس الإنماء والإعمار على إقامة المشروع”.
كثير من الشكوك أثير حول طبيعة هذا المشروع، فهو يقضي بإنشاء مرأب للسيارات تحت الأرض مكوّن من 4 طبقات ويتسّع لـ500 سيارة. وعلى الرغم من أن هذا المشروع قُدِّم على أنه واحد من ثلاثة مشاريع «إنمائية» ترمي الى حل أزمة السير في وسط المدينة، تفيد مصادر مطلعة أنه يجري التخطيط لإنشاء مجمع تجاري بمحاذاة الساحة، وأن المرأب «ليس الا موقفا لسيارات يخدم هذا المجمّع». وتربط المصادر نفسها مخطط المجمّع بطلب مجلس الإنماء والإعمار من بلدية طرابلس إسقاط عقاريين من أملاكها في ساحة التل «لضمها الى الأملاك العامة لتنفيذ مشروع المرأب».
طلب مجلس الإنماء والإعمار
من بلدية طرابلس اسقاط ملكيتها لعقارين من اجل مشروع المرأب


المفارقة تكمن، أن مجلس الإنماء والإعمار أرسل كتابه الى البلدية ليطلب اسقاط عقاريين من دون أن يرفقها بخرائط المشروع، ومن دون ان يُعلمها بتلزيم دراسته. هذه الدراسة، بحسب أحد المتابعين، جرى تلزيمها «بالتراضي بكلفة 300 مليون ليرة، فيما يؤكد عدد من أعضاء المجلس البلدي ان ثمة دراسة سابقة لمشروع مرأب بطابقين أُنجزت بكلفة 40 مليون ليرة لبنانية في عهد المجلس البلدي السابق».
ليست البلدية وحدها من لم يطّلع على مخطط المشروع، يؤكد أحد الناشطين المدنيين في طرابلس انه لم يُشرَك أي من منظمات المجتمع المدني في هذا المشروع، وأنهم «لم يتمكنوا من الاطلاع على المخططات» ويضيف: ”هناك الكثير من السرية التي أحيطت به، وهو ما يعزز شكوكنا حول جدوى إنشاء هذا المرأب».
سلوك مجلس الإنماء والإعمار، أثار استياء أعضاء المجلس البلدي خلال جلستهم، يقول رئيس لجنة الآثار والتراث في البلدية خالد تدمري إن «الأعضاء عبّروا عن امتعاضهم من فوقية مجلس الإنماء والإعمار، وطلبه التنازل عن عقارين في التل لتنفيذ مشروع لا نعرف عنه شيئا».
رفض البلدية للمشروع كان منتظرا. يقول عضو مجلس بلدية طرابلس خالد صبح لـ»الأخبار» إن «تنسيقاً مسبقاً كان قائماً بين الأعضاء يقضي برفض المشروع، وقد طالبنا بتحويل المبلغ المخصص للمرأب إلى مشاريع أخرى ملحّة تحتاج إليها المدينة». ويضيف صبح: «بالرغم من أن البند المتعلق بإنشاء المرأب كان رقمه 56 على جدول الاعمال، احتج الأعضاء وطالبوا بأن يكون موضوع المرأب البند الرقم واحدا».
قرار الرفض اتخذ بإجماع 18 عضوا حضروا الجلسة. يشير تدمري الى أن «بعض الأعضاء طالبوا في بداية الجلسة بالاطلاع على خرائط المشروع وبدراسة جدواه قبل رفضه»، الا ان محافظ الشمال رمزي نهرا تدخّل، و»لفت إلى أن هناك أجواء رفض عامة في طرابلس ضد المشروع، وأي تردد في رفضه قد يؤدي إلى خسارة الهبة المقدمة من تركيا، لإنشاء قصر للثقافة والمؤتمرات في ساحة التل، بدلاً من المرأب».
قبل أيام، أبلغ السفير التركي في بيروت إينان أوزيلديز رئيس الحكومة تمام سلام مبادرة تركية تقضي بإقامة مركز ثقافي ومسرح في الساحة المذكورة، وإعداد خرائط ودراسات من أجل إعادة تأهيل ساحة التل بأكملها. يشير تدمري الى أن الاقتراحات الأولية «تتضمّن إقامة قاعة مسرح كبيرة تحت الأرض، وتشييد مبنيين فوق الأرض، كل منهما مكون من طابقين يجمعان بين التراث والحداثة من الناحية العمرانية، ويكونان على شكل قصر واسع للمؤتمرات والنشاطات الثقافية في طرابلس، ويعوّضان هدم مسرح الإنجا التاريخي قبل أعوام في ساحة التل نفسها».
يقول احد المتابعين إن ثمة «سباقا» بين مؤيدي المشروع ومعارضيه، ففي الوقت الذي يجهد فيه داعمو المشروع لدفع الحكومة إلى تلزيمه، يلجأ معارضوه الى وضع المشروع التركي في مقابله.
وسط هذا «السباق»، ثمة ساحة تراثية وأثرية تمثّل واجهة المدينة وتشغل جزءا من ملامحها وذاكرتها تُسحق. تبلغ مساحتها قرابة الـ4000 متر مربع، يجري التنازع عليها لفرض مشاريع «إنمائية». يقول رئيس مؤسسة طرابلس الياس خلّاط إن المفاضلة بين هذين المشروعين ليست الحلّ المطلوب. يجد خلاط ان المشروع التركي «لا يقل تأثيرا عن مشروع المرأب». ويلفت الى ان مشروع المركز الثقافي سيحتاج حتما الى موقف للسيارات، وسترافقه أعمال حفر وقضم هذه المساحة العامة في المدينة، «وبالتالي، فإن المشروعين يتساويان من حيث تأثيرهما على الطابع التراثي للمكان». يضيف خلاط: «هذه المنطقة تحمل الكثير من ملامح القرن الثامن عشر، وفيها الكثير من الأبنية الأثرية، ومن غير الجائز القضاء عليها، أو التنازع عليها»، فيما يبدي بعض المراقبين قلقهم من «أن يتحول وسط المدينة في طرابلس الى وسط مدينة بيروت، فاقدا الروح والذاكرة، ومرتعا للمضاربين على اسعار الاراضي».