عملية «شهداء القنيطرة» التي يشنها حلف المقاومة في جنوب سوريا، يتجاوز مضمونها الاستراتيجي نجاحاتها العسكرية بكثير؛ فهي أحدثت انقلاباً في الجغرافيا السياسية لبلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن)، نحو استعادة ترابطها البيني، وارتباطها الجمعي بقضية الصراع مع الكيان الصهيوني، بوصفه صراعاً قومياً. ما تحقق حتى الآن، كأمر واقع، هو ارتباط جبهة الجنوب اللبناني بجبهة الجولان، لكن السياق الموضوعي للتحولات الحاصلة، وضع الوطنيين الفلسطينيين والأردنيين، في مواجهة استحقاقات تاريخية كبرى.
بالنسبة للحركة الوطنية الفلسطينية ــــ ونعني الاتجاه والمهمات والمناضلين، بأكثر مما نعني التنظيمات ـــــ لم يعد ممكنا المضيّ قدماً في البرامج السياسية التي أصبحت، اليوم، فائتة؛ فولادة جبهة المقاومة الشمالية، الممتدة من البحر المتوسط إلى الحدود الأردنية، ستخلخل البرنامج الفتحاوي القائم على عملية المفاوضات الدائمة مع العدو، كإطار لنشوء كيان فلسطيني في مرحلة سقوط الكيانات القُطرية في المشرق. وفي المقابل، فإن مشروع الإمارة الحمساوية في غزة، أصبح خارج المعادلات المستجدة التي أطاحت بمشروع الإخوان المسلمين، مخلّفةً الحمساويين في حالة فوضى وانشقاق بين تيارين، أحدهما واقعي يرى أنه لم يعد أمام حماس سوى العودة إلى الأحضان الإيرانية، وثانيهما، الأقوى سياسياً، لا يزال يأمل بفرجٍ يأتي من الجالس الجديد على عرش السعودية. هكذا، يتعثر اللقاء الإيراني ــــ الحمساوي. وهو، على الأرجح، لن يحدث من دون تغييرات سياسية داخل حماس، تنتقل بها إلى حلف المقاومة الذي أعاد ترتيب أوراقه، انطلاقا من التماهي بالسيادة السورية بالذات، ما يجعل دمشق، رغم كل الدعم الذي تحصل عليه من إيران وحزب الله وروسيا، صاحبة القرار السياسي الأخير، في مشروع المقاومة.
يدرك الجناح الإخواني في حماس تلك الحقيقة الجيوسياسية التي تنبني في جنوبي سوريا. ولذلك، فهو يلحّ في مغازلة السعودية مباشرة، والتقرّب إلى الإمارات، بواسطة الفتحاوي المنشقّ محمد دحلان، بينما تطلق وسائل اعلامه حملةً طائفية ضد حلف المقاومة المقاتل في الجولان ودرعا. كمثال، تشنّ يومية «السبيل» الاخوانية ــــ الحمساوية، التي تصدر في عمّان، هجمة مسعورة على ما تعتبره «ميليشيات شيعية» تقاتل «المسلمين»، وتعرب، صراحة، عن تعاطفها مع «جبهة النصرة»، رغم انكشاف التعاون الوثيق بين هذه المنظمة الإرهابية والعدو الصهيوني.
من سوء الحظ أن الفكر السياسي الفلسطيني لم يقترب، بعد، من معالجة المستجدات الإقليمية الحاصلة، تلك التي أعادت تعريف القضية الفلسطينية كقضية قومية في سياق إقليمي (إيران) ودولي (روسيا)، وحوّلتها، استراتيجياً، إلى قضية صراع مع الكيان الصهيوني، تتجاوز مشروع إنشاء الدولة الفلسطينية، وتطيح، واقعياً، بما سُمي «القرار الوطني المستقلّ «، نهائياً؛ القرار، الآن، لدى حلف المقاومة، ولن يكون هنالك، بعد، مكان لوطنية أو مقاومة فلسطينية، خارج هذا الحلف، وبرنامجه وقيادته.
بالنسبة للحركة الوطنية الأردنية، يبدو تحدّي الاستحقاق الجيوسياسي لتموضع حلف المقاومة على حدود الأردن، أسهل وأكثر تعقيداً في الآن نفسه. هو أسهل لأن الوطنيين الأردنيين توصلوا، مبكرا، للإدراك السياسي لذلك الاستحقاق وتبعاته، ولأن الوطنية الأردنية ليس لديها عقدة نقص إزاء المركز القومي السوري. وهو أكثر تعقيداً، بسبب ترابط الوطنية الأردنية بالدولة والجيش ــــ وليس بالنظام ــــ ما يجعل مشروع المقاومة الأردنية، بالضرورة، مشروع دولة لا مشروع حركة، وما يطرح، بالتالي، احتدام الصراع الاجتماعي ــــ السياسي الداخلي حول محورية قضية المقاومة.
للأردن، الشعب والدولة، مصلحة استراتيجية في وأد مشروع الوطن البديل. وهو مشروع جرى انجاز العديد من مفاصله فعلياً، رغم، بل بسبب، معاهدة «وادي عربة» التي سمحت، منذ توقيعها العام 1994، بالترانسفير الناعم لأكثر من مليون شخص هاجروا من الضفة الغربية إلى الأردن. قيّدت تلك المعاهدة المشؤومة، أيضاً، القرار السياسي الوطني، وأضعفت القدرات الدفاعية في مواجهة العدوانية الصهيونية المدججة بالسلاح، وأتاحت، داخلياً، للقوى الكمبرادورية، خصخصة القطاع العام ونهبه واطلاق قوى السوق التي سحقت جماهير الريف والبادية، بالإفقار والتهميش وتمييع الهوية الوطنية والقومية. وخلال سنوات الحراك الشعبي، بين 2011 و2013، عبرت تلك الجماهير، بصورة حاسمة، عن وعيها بترابط السلام مع الصهاينة والوطن البديل والفساد والفقر وتفكيك الدولة الوطنية.
بسببٍ رئيسيٍ هو الخوف من التبعات المتوقعة لانهيار الدولة السورية على الأردن، من فوضى وانهيار أمني وسيطرة إخوانية وإرهابية على البلاد، تراجعت قوى الحراك الأردني، حفاظا على الدولة والبلد. وهو ستاتيكو سينتهي بانتهاء سببه؛ فحين يحقق حلف المقاومة انتصارا واضحا على الإرهابيين، وتحتدم المواجهة مع العدو الصهيوني، ستتراكم القدرات لدى الحركة الوطنية الأردنية، بما يؤهلها لفرض شروطها، داخلياً واقليمياً.