ضمن فضاء «دوار الشمس»، يقدّم سمير خداج عرضاً متعدد الأبعاد بعنوان «صورة ذاتية مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان». خلال العام الماضي، دعانا خدّاج إلى رحلة في مبنى «مسرح المدينة» القديم في كليمنصو. ذلك المسرح الذي شهدت خشبته عدداً كبيراً من العروض المهمة التي عرفتها بيروت، كان قد تحوّل إلى ما يشبه الخربة بعد هجره. حينها، قرر خدّاج أن يعيد اقتحامه بتجهيز ضخم يضمّ عدداً كبيراً من الفيديوهات الموزعة في أرجاء هذا الفضاء المسرحي من المدخل إلى الأدراج وخفايا الغرف التي كانت مغلقة، إلى قاعة المسرح الخالية من المقاعد والخشبة.
يومها، جلنا في رحلة شعرية كمَن يغوص في فضاء مهجور تنبت من زواياه صور وفيديوهات قررت أن تسكنه، فتعطيه حياةً جديدة رسمها وولّفها الفنان سمير خدّاج. أمّا اليوم، فيختلف السياق، ويختلف معه الطرح. يدخل خداج إلى مسرح نابض، وفضاء ما زالت خشبته تقدّم العروض، فكان لا بد من التفاعل مع ذلك الفضاء الحي بطريقة مختلفة، كما عوّدنا دوماً في أعماله، وهكذا فعل. يرتكز العرض إلى فضاء الركح، ويتوجّه إلى الجمهور الجالس في مقاعد المسرح، بعكس عمله السابق في «مسرح المدينة» المهجور حيث كان الجمهور يتنقل سيراً بين الأعمال. تلك العلاقة بين العمل المعروض على الخشبة والجمهور المتلقي، أثارت لدى خداج طرحاً مختلفاً. هكذا نصب في فضاء المسرح شاشات تحتّل أبعاداً متباينة على الخشبة، وفي المقدمة شاشة شفافة كبيرة. على تلك الشاشات، ألقى بصوره وفيديوهاته من مصدرين للصورة يلتقيان وسط المسرح، فيشكلان صوراً ذات أبعاد ثلاثية. أعاد خداج عكس التقنيّة الكلاسيكية في إنتاج الصورة الثلاثية الأبعاد. بدلاً من التقاط الصورة بعدستين، أنتج فيديو مؤلفاً من مصدرين للصورة. عبر تعدّد الشاشات واعتماد شاشة شفافة في المقدمة، استطاع أن يخلق بعداً ثالثاً للصورة. ظهرت بعض تفاصيل الصورة كما لو أنّها تتطاير في فضاء المسرح. أهميّة مقاربة خداج للصورة في عمله الجديد تكمن في رغبته بمخاطبة الفضاء الذي يعرض فيه. على تلك الخشبة، يقدّم الممثلون عادة بأجسادهم أفعالاً دراميّة، أفعالاً ثلاثيّة الأبعاد، فكان لا بدّ لخداج أن يحاكي ذلك الفعل عبر تخطي حصر الصورة أو اللوحة بأبعادها الثنائية، وتحويلها إلى أجسام تحتّل بعداً ثالثاً في فضاء المسرح. هكذا أعطى لوحاته وصوره حضوراً مختلفاً فوق الخشبة، حضوراً ملأ الفضاء. لم يكتف بذلك، بل كان من وقت إلى آخر يدخل بجسده إلى الخشبة، ليصبح جزءاً من عالم صورته ثم يختفي وراء شاشاته. مثير سمير خداج في مقاربته لأعماله الفنية حتى اليوم، هو الذي يقول عنه المخرج روجيه عساف «تتجلى دينامية الفنان الذي يرفض أن يكتفي بعرض لوحاته في مكان لا تنتمي إليه، بل يقرر أن يحتل المكان، أن يغويه، وأن يدخله في عالم صوره (...) الفنان لا يعرض لوحاته، بل يقوم بإخراج مشهد تشكيلي». تلك الخصائص التي يتميّز بها خداج (١٩٣٩) ترجمها منذ معرضه الأول في «الكارلتون» عام ١٩٨٩، مروراً بمرحلة انتقاله إلى باريس عام ١٩٩٠، وصولاً إلى اليوم.
فنان متجدد يسائل في كل
عمل له الشكل والمضمون والسياق الذي يعرض فيه
فنان متجدد يسائل في كل عمل له الشكل والمضمون والسياق الذي يعرض فيه. هكذا يعيد طرح الفعل الدرامي على الخشبة بين سطوة شاشات الفيديو على المسارح واحتلال الأبعاد الثلاثيّة لشاشات السينما من دون أن يقضي على جسد وفعل الممثل على الخشبة. إلا أنّ سؤالاً وحيداً يبقى ملحاً في «صورة ذاتيّة مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان» ويتعلّق مضمون العرض. خَلق الفعل على المسرح بتقنياته المتعددة وتلقيه من قبل الجمهور يحصلان في الدقائق الأولى فيما طوال العرض، تتوالى فيديوهات وصور تبقى غير قابلة لبناء حوار مع المتلقي، بل تنحصر في المفهوم الجمالي للشكل المطروح. علماً أنه كما يدّل العنوان، فجميع تلك المواد تصبّ في صورة الفنان الذاتية، وإن كان على الخشبة فعلاً شاهدان صامتان. إلا أن الجمهور أيضاً تحوّل شاهداً صامتاً وعاجزاً عن التفاعل مع المواد المقدّمة، ربما لأنّ هذه المواد بقيت ذاتيّة جداً في لغتها وتفاعلها في ما بينها، ما شكّل حاجزاً أمام تواصلها مع المتلقي.



«صورة ذاتيّة مع الكلارينيت والشاهدان الصامتان: عرض متعدد الأبعاد» ـــ من 23 حتى 31 كانون الثاني (يناير) 20:30 مساءً ــ «دوار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/381290