هو مشهد مؤثر فعلاً. اللون الاحمر سيطر على القاعة، بدءاً بالشعارات واليافطات التي طالبت بإلغاء نظام الكفالة كهدف رئيس، وصولاً الى اللباس الموحّد الذي عبّر عن انتظام هذا الحراك والتزام المنتسبات والمنتسبين بقضيتهم الواحدة: مقاومة أبشع أشكال الاستغلال في سوق العمل.
مضطهدات ومضطهدون من مختلف الجنسيات تدفقوا أمس الى قاعة مخصصة للأفراح مقابل مقرّ الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في وطى المصيبة. كانوا كثراً بما يفوق التوقّعات، وبما يناقض مشهد العمل النقابي في لبنان الخاضع والمستسلم. رفعوا القبضات عالياً تعبيراً عن قوّة كامنة تحثّهم على تحدّي المخاطر والتهديدات. أعلنوا تأسيس أول نقابة للعاملات والعمال في الخدمة المنزلية، ولو باسم مستعار هو «النقابة العامة لعمال التنظيفات والرعاية الاجتماعية»، وهيئة تأسيسية مستعارة تضم لبنانيات ولبنانيين يعملون في هذا المجال أو في مجالات مشابهة أو ذات صلة، وذلك التزاماً بقوانين محلية جائرة تنتهك حقوق وحريات فئة واسعة تمثل اليوم جزءاً مهماً من القوى العاملة بأجر.
عشية التئام المؤتمر، استنفرت أجهزة السلطة لمنع مثل هذا الخرق غير المحسوب. وصل الامر بوزير العمل سجعان القزي الى توجيه تهديدات مباشرة الى المنظمين. اتصل بهم (أول من أمس) مهدداً باستخدام القوى الامنية لوقف أعمال المؤتمر بالقوة، ووجه تحذيرات غير مبطّنة الى الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان، الذي أخذ على عاتقه تأسيس هذه النقابة واحتضانها في صفوفه (بدعم من منظمة العمل الدولية واتحاد النقابات الدولي). رفض المنظمون هذه التهديدات والتحذيرات، واعتبروها «وقحة»، تتوسل أساليب قمعية ضد الحريات النقابية، غير مبنية على أي قانون، «إذ ليس هناك أي جرم جزائي مرتكب، وأي مخالفة لقانون العقوبات، في تجمّع عمال وعاملات للقيام بعمل شرعي، هو المطالبة بحقوقهم»، وفق ما قاله الناشط الحقوقي المحامي نزار صاغية.
الاستثناء من قانون
العمل لا يعني منعهم
من تأسيس نقابة


مشروع إنشاء هذه النقابة ليس وليد اللحظة. منذ سنوات تخوض العاملات في الخدمة المنزلية نضالاً قاسياً من أجل الحصول على أبسط حقوقهنّ. هنّ مستثنيات من حماية قانون العمل. تمّ تأويل القانون لحرمانهن من حق التنظيم النقابي، على الرغم من عدم وجود أي نص صريح يمنعهن من تأسيس نقابة. رأت العاملات أنه لم يعد كافياً اقتصار المواجهة على عدد من التظاهرات التي ينظمها «المجتمع المدني» في المناسبات. قررن الانتقال إلى خطوة تقدمية أكثر. قمن بالتعاون مع زميلات وزملاء لبنانيين بتقديم طلب رسمي إلى وزارة العمل لتأسيس نقابة تحت اسم «النقابة العامة لعمال التنظيفات والرعاية الاجتماعية»، ونص النظام الداخلي على أن مهماتها تتضمن تنظيم العاملات والعاملين في المهن المتشابهة والمترابطة التي تدخل في نطاق تسميتها، بما في ذلك العمل في الخدمة المنزلية، وقد جاءت هذه الصيغة نتيجة عمل محامين يجزمون بأن ليس في ذلك أي مخالفة للقانون، ويجزمون بالتالي بأن تصرّف وزير العمل هو الذي يناقض القانون.
ليس خافياً أن هدف هذه النقابة هو تنظيم العاملات والعمال في الخدمة المنزلية نقابياً، وتشكيل قوّة منظمة تتيح الدفاع عن مصالح هذه الفئة العمالية. هذا ما تم إعلانه بوضوح في المؤتمر التأسيسي أمس، إذ انتهى الى تشكيل أول لجنة (نقابة) لهذه الفئة، سيليها تأسيس لجنة ثانية لعاملات وعمال الرعاية في دور الحضانة والمدارس. لم تكن كل المقهورات والمقهورين مشاركين في هذا المؤتمر. المئات من العاملات بقين حبيسات منازل أصحاب عملهن، والمئات أيضاً كنّ يتعرّضن للضرب والاغتصاب. البعض منهن لم يأخذ أجره منذ سنين، وهناك عاملة ستُقتل خلال أيام، وسنُسمّي هذا «انتحاراً». من أجل هؤلاء، حضرت الى المؤتمر أمس عشرات الإثيوبيات، الفيليبينيات، السريلنكيات، الصوماليات، الكاميرونيات، البنغلادشيات والكثير غيرهنّ، مع مشاركة ضئيلة للذكور.
نبض المواجهة مع السلطة سيطر على العاملات والعمال الأجانب، فيما غاب هذا النبض عن بعض المؤسسين اللبنانيين، إذ أعلن رئيس الاتحاد الوطني كاسترو عبدالله، في كلمته في حفل الافتتاح، أن وزير العمل سجعان قزي «غاب اليوم لكنّ قلبه معنا». لكن قزّي الذي رفض التحدث باسمه صراحة عبر «الأخبار» أعلن أن قلبه في مكان آخر. تحدّث «مسؤول رفيع» في وزارة العمل، معتبراً أن «هؤلاء ليس لديهم أي صفة تمثيلية، وما جرى أمس هو عمل غير قانوني سيُحاسب المسؤول عنه». يُكرر «المسؤول الرفيع» حرفياً تهديداته لمنظمي المؤتمر: «كنا على وشك إرسال قوى الأمن لمنع انعقاد هذا التجمّع غير القانوني، إلا أننا لم نرغب في أن يأخذ الموضوع أبعاداً سلبية». ما قصده «المسؤول الرفيع» أن إرسال القوى الامنية قد يثير «جلبة» في ضوء مشاركة وفود من منظمات دولية وبعثات دبلوماسية في أعمال المؤتمر.
ستصدر وزارة العمل اليوم بياناً ترد فيه على حدث أمس. يؤكد «المسؤول الرفيع في وزارة العمل» أنه «ليس لأي أحد حق في تأسيس نقابة ما لم يكن لبنانياً، كما أن عمال المنازل مستثنون من أحكام قانون العمل، وبالتالي لا يمكنهم تأسيس نقابة».
يعلّق وزير عمل سابق بأن حجج وزارة العمل ساقطة أخلاقياً وقانونياً، فالنقابة ليست مخصصة للأجانب، بل تستهدف أشخاصاً يمارسون نشاطاً اقتصادياً معيناً (عمال وعاملات المنازل) بمعزل عن جنسياتهم، وهي تضم لبنانيين يزاولون هذا النشاط، فيما يؤكّد المحامي نزار صاغية أن مؤسسي هذه النقابة عمال لبنانيون وفق الطلب الذي قُدّم إلى الوزارة. كذلك فإن استثناء قانون العمل عمال الخدمة المنزلية من نطاق تطبيقه يعني أنهم غير معنيين بنصوص هذا القانون، بما في ذلك تشكيل نقابة، لكن هل يعني أنهم ممنوعون من تشكيل نقابة؟ على العكس، فاستثناؤهم من القانون يشير الى أنهم لا يخضعون لشروط تأسيس النقابات التي ينص عليها قانون العمل، ولا يعني إطلاقاً منعهم من تأسيس نقابة وتجمّع للدفاع عن حقوقهم، فهناك معاهدات ومواثيق دولية تعطيهم هذا الحق.
ردّ الفعل العنيف من قبل وزير العمل يعبّر عن موقف حازم متّخذ بمنع نشوء نقابة من هذا النوع، إذ كان بإمكانه أن يتصرّف كأي وزير عمل في لبنان، أي أن يرفض «منح» الترخيص لأي نقابة لا يريدها، بدلاً من فتح مواجهة معلنة. هذا التصرّف له أسبابه العديدة، أوّلها أن النظام لا يسمح بأي تساهل عند الحديث عن قيام نقابات خارجة عن السيطرة. وثانيها أن وظيفة «استقدام» العاملات والعمال الاجانب واستغلالهم أبشع استغلال هي لتأمين «فائض عمالة» قابل للاستخدام في ترويض الفئات العمالية المهمشة وتخفيض أجورها، فكيف سيقبل النظام السماح بتنظيم هذا الفائض نقابياً بعدما نجح في تحويل أكثر من ثلث القوى العاملة اللبنانية الى عمالة غير نظامية. معادلة الإخضاع واضحة: استقدام عدد هائل من العمالة الأجنبية غير الماهرة التي يمكن التحكم فيها بسهولة، ووضعها مقابل العمالة اللبنانية المشابهة، ما يدفع العمال والعاملات الى القبول بشروط قاسية في سوق العمل.
يقرّ «المسؤول الرفيع» بأن «تحسين ظروف هؤلاء العمال واجب، نظراً إلى ما يتعرضون له من معاملة غير إنسانية واستغلال واتجار، لكننا نريد معالجة الأمر بالقانون وليس بمخالفة القانون عبر تأسيس نقابة غير قانونية، فالنقابات تخلق صراعاً». هذه هي المسالة إذاً: «وأد الصراع»، مسألة ترد عليها «النقابيات الجديدات» في تقريرهن بأنه «ليس بالقانون وحده يؤسّس لتنظيم نقابي، بل بفرضه واقعاً ملموساً على الأرض، والسعي الى انتزاعه اعترافاً قانونياً».