طه الخيال ــ ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام في 11 كانون الثاني أنه من مواليد 1994. رقم السجل 86 ــ الرمانة طرابلس.
شغلت نفسي عن اضطرابها، وعن شريط الأغاني الشعبية الذي شغّله سائق الفان بترداد الحديث النبوي «صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نِعْمةٍ ورنَّة عند مصيبةٍ»... حتى غفوت. جفلت عندما أيقظني السائق طالباً مني الترجل بعدما وصل إلى طرابلس ونزل جميع الركاب. لم أكن أحمل حقيبة أو كيساً. هكذا خرجت من منزلي قبل نحو شهرين. دسست يدي في جيبي الأيسر لأتأكد من وجود هويتي. شغّلت هاتف النوكيا الذي حصلت عليه حين التحقت رسمياً بمجموعة الشيخ، ولم أستخدمه في أية اتصالات خاصة إلّا مرتين. سرت في اتجاه البحر مردداً: «ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون»، كما أوصاني الشيخ شادي.

بالقرب من هنا، قتل أحد أهم القياديين في فرقتنا. كانت المقاهي والمطاعم في شارع الـ City Complex تزدحم برجال ونساء من مختلف الأعمار، رغم البرد القارس. سبق لي المرور خلال النهار من هنا، إلا أن الشارع يبدو مختلفاً في الليل حين يخلو من السيارات القديمة والمتسولين وباعة الكعك و»البويجيّين». تضيع عيناي بين أضواء السيارات والمطاعم وأسنان الرجال والنساء في الداخل. أتذكر أمي ووجع الأسنان: تتراءى لي صورتها على الزجاج الفاصل بيني وبينهم، تخبط رأسها بالحائط من فرط الوجع. تتشتت أفكاري. لو كان الحزام الناسف في حوزتي الآن لانتقمت من كل من يملأون بطونهم بدخان النراجيل. لست مزنراً بعد ولديّ المال، يمكنني أن أشتري ما أشاء من وجبات. ماذا ستقول غداً أمي؟ أعلم أن أبي سينهال عليها كعادته بالضرب ويحمّلها مسؤولية هذه الخِلفة. شقيقاتي الثلاث سيلزمن، على غراري في الأوقات المحرجة، الصمت، فيما سيدين أبناء عمي الكفار المنضوون في الجيش الصليبي العملية ويمزّقون، بتشجيع من والدي، صوري التي سيرفعها أخوتي المجاهدون في مختلف الساحات.
عملاً بنصيحة الشيخ شادي، أعود إلى تهدئة خواطري بترديد آيات قرآنية. ألمح، قبيل الانعطاف في اتجاه الحديقة التي ينتظرني فيها أحد الأخوة، لافتة تشير إلى الأمتار الباقية لانتهاء الماراتون. كانت لي أحلام رياضية، كنت أهم حارس مرمى في «المنكوبين» وكنت واحداً ممن يركضون في ماراتونات المدينة للفوز بميدالية. قدّر عمي الميدالية عالياً، لأن سياسياً يخصّه ينظم الماراتون. والدي سأل عن معدنها لتقدير قيمتها، فيما علّقتها والدتي فوق التلفاز متباهية بها أمام جاراتها.


علي إبراهيم ــ مواليد 1997 ــ ذكر والده أمام وسائل الإعلام أنه انتسب قبل ثلاثة أشهر إلى معهد لدراسة التمريض وتقدم بطلب انتساب إلى المؤسسة العسكرية.

الكهرباء مقطوعة. أصعد الدرج ركضاً. أخلع ثياب الرياضة لأستحم في دقيقتين وأرتدي قميصاً أزرق مع الجاكيت الجلدية الجديدة، ثم أرتب شعري وأتعطّر، أقبّل والدتي وأغادر في أقل من عشر دقائق. يقول الأستاذ سليمان إنني لا ألتقط انفاسي ودائم الركض لألحق بكل شيء. كان والدي عسكرياً في فوج المجوقل قبل الظهر ولاعب كرة قدم بعده. كنت أنسجم مع شخصيتيه، مفضلاً لاعب كرة القدم طبعاً. كان يحرس مرمى نادي حركة الشباب الرياضي عند انتقاله من الفئة الثانية في دوري كرة القدم إلى الفئة الأولى، فتحوّل إلى بطل حقيقي في كل الجبل (جبل محسن). عندما يكون في الجبل نرافقه إلى الملعب، ونتدرب عند ذهابه إلى الخدمة لإيجاد الوسيلة الأنسب لهزّ شباكه حين يعود. ولذلك قررت أن ألعب في الهجوم. وقّعت مع نادي الشباب فور بلوغي الثانية عشرة، وتدرجت في فئاته العمرية قبل أن أنتقل قبل عام واحد إلى فريق الرجال. إلا أن المدرب أبقاني في مقاعد الاحتياط في أول مباراتين لنا في الدوري، لذلك أتفرغ هذين اليومين لإقناع اللاعبين وغيرهم بالضغط عليه لإشراكي في المباراة المقبلة ضد نادي زمالك بيروت. لينا ترافق الفريق في باصات الجمهور في مبارياته البيروتية، وحين تراني في الملعب أسجل هدفاً تلو الآخر ستجيبني أخيراً على الواتس آب. أعرف أنها تقرأ كل ما أرسله لها، وأعرف أنني أعجبها وأن دخولي الملعب سيدخلني إلى قلبها.


طه الخيال ــ ذكرت وسائل الإعلام نقلاً عن مصادر أمنية أنه شارك في معركة طرابلس الأخيرة وانتقل بعدها إلى القلمون.

أوصاني الشيخ شادي بأن أشتري ثياباً جديدة من شارع عزمي، رغم أنني ـ وفق الخطة ـ بدّلت ثيابي الشرعية بأخرى رياضية في مخيم عين الحلوة وحلقت لحيتي. كنت أفضل لو أنني اشتريت الثياب الجديدة من الأسواق، إلا أن أهل «المنكوبين» يتردّدون إلى هناك، والاحتمال كبير أن يعرفني أحدهم. كان عمي يملك دكاناً في الأسواق لصناعة الأحذية وبيعها. عمل والدي لدى عمّي، وتمكن من الزواج بعد بناء غرفتين في المنكوبين. تتوارث عائلتي الملكية الوهمية في الحيّ ــ المنزل منذ فيضان نهر أبو علي قبل أكثر من خمسة وستين عاماً. مذ ذاك ينتظر المنكوبون بالفيضان أن توفر لهم الدولة مساكن بديلة لائقة. كلما كان والدي يتراجع في العمل، كان يتقدم في إنجاب الأولاد. كنا ننام، أنا وأخوتي الخمسة، في غرفة، ووالداي في الغرفة الأخرى التي تضم المطبخ والحمام. كانا ينتظران نوم أصغرنا ليقتربا من بعضهما. تخدّر أنفاسهما أحلامي الجنسية. أتخيلهما كلما بلغ الحديث في أزقة المنكوبين أو ملعب المدرسة أرداف النساء، فأصم أذنيّ. ليست لدي رغبات جنسية. لدي رغبة شديدة بالخلاص من صوت الغرفة الأخرى المقيم في رأسي. قبل ستة أشهر حاولت، مجدداً، التقرب من والدي حين رأيت اجتهاده في بناء غرفة لشقيقي الأكبر، فساعدته في تمديدات الكهرباء. قلت له إنني سأتزوج أنا أيضاً، فضمّني بحب وأشار إلى زاوية السطح المخصصة لغرفتي. تكاد تكون الصورة السعيدة الوحيدة التي تجمعني به هي أثناء حمله لي على كتفيه في تظاهرة 14 آذار. كنت في الحادية عشرة من عمري يومها، وكانت المرة الأولى التي أرى ووالدتي فيها بيروت. لاحقاً فهمت كل شيء. تخيّلوا علامَ تفتّح وعي من كانوا في العاشرة من عمرهم عام 2005: تلفزيونياً، يزرع المستقبليون «الحقيقة» في رؤوسهم من «أدلة» المحكمة عن تورط حزب الله في قتل الرئيس رفيق الحريري إلى 7 أيار وطرد الرئيس سعد الحريري من لبنان. أما حياتياً، فالجبهات مع جبل محسن مفتوحة لقتال «الخوارج». لا شيء اسمه أحلام أو رياضة أو عمل أو مسكن أو تعليم. فقط خطب نارية ودروس تكفيرية وساحات «جهاد». دأب عمي على نقلنا من «المنكوبين» إلى شقق مهجورة في الأحياء الآمنة كلما احتدّت المعارك مع جبل محسن في الأعوام الثلاثة الماضية لتجنيبنا الخطر. كان والدي وعمي يحرصان على عدم انضمامي وأخوتي إلى أية مجموعة مقاتلة، إلا أنهما كانا مسرورين، كأيّ أب مسلم، لقيامي بفروضي الدينية.



علي ابراهيم ــ ذكر مدرب ناديه «الأستاذ سليمان» أمام وسائل الإعلام أنه كان مشاغباً يعيش مراهقته على أكمل وجه.

لا تعنيني السياسة كثيراً. أنا، ككل المحيطين بي، أحبّ الرئيس السوري بشار الأسد. لن أنتسب أبداً إلى حزب البعث. فوالدي، حتى بعد تقاعده من الجيش، لا يسمح بانتسابنا إلى الأحزاب. ولأنه عسكري، حرص خلال السنوات الماضية على منعنا من الانضمام إلى المجموعات المقاتلة دفاعاً عن جبل محسن. وجدت أنني من خلال دراسة التمريض سأقدم لمنطقتي مستقبلاً خدمات هي في أمسّ الحاجة إليها، كذلك سأرفع بواسطة كرة القدم رأس المنطقة. إلى جانب الرياضة، أنا حريص على أناقتي لجذب لينا، حرصي على علاقتي بالأستاذ سليمان وتكسير رؤوس أصدقائي في ألعاب البلاي ستايشن ومعرفة كل ما يتعلق بنادي ريال مدريد. سأسافر في شهر العسل إلى إسبانيا لمتابعة تدريبات «الريال» عن قرب ومشاهدة المباريات من المدرجات. لا تعنيني كثيراً الأمور الدينية، إلا في الأعياد. أنا متعصب للريال أكثر من تعصبي لديني، وحريص على فوز نادي الشباب في المباريات أكثر من حرصي على فوز الجبل في الجولات القتالية. يسرّني، بالمناسبة، انتهاء القتال العبثيّ؛ فبسببه اضطر النادي إلى الانسحاب من دوري كرة القدم العام الماضي. وها أنا الآن مرتمٍ فوق السرير في غرفتي، أحاول تحديد من أحب أكثر: والدتي التي تغمرني بعاطفتها، أو والدي الذي يشجّعني في كل ما يتعلق بكرة القدم، ويريدني أن أكرّر تجربته في الجيش أيضاً.


طه الخيال ــ أُخرج من المدرسة الرسمية في الثالثة عشرة من عمره، وبدأ ببيع الخرنوب في منطقة المنكوبين في الخامسة عشرة.

سآخذ الحزام في نزهة في المدينة قبل تفجيره. سأدلّه على مدرسة الزاهرية للصبيان. كان عمي يحضرنا إليها بباصه قبل أن تفلسنا الأحذية الصينية فنغلق الدكان. واصلت الدراسة فيها حتى الصف السادس. بعدها، انتقلت إلى مهنية المنكوبين في دار الأيتام قرب المنزل لدراسة التلحيم الكهربائي. شغل الحداد الإفرنجي لا ينضب. إلا أن والدي عجز عن توفير متطلبات الدراسة فطردت. حاول عمي إعادتي إلى المهنية، لكنني رفضت. جلت في طول المدينة وعرضها عشرات المرات بحثاً عن وظيفة ما. خمسة آلاف في اليوم. كنت سأقبل بألفين. لم تحتج أية ورشة إلى عامل صغير. انتقل والدي من بيع الجلاب إلى بيع الكعك. أقنعتني والدتي ببيع الخرنوب في عربة الجلاب، وافقت فوراً. وما كدت أقف خلف العربة حتى تغيّرت نظرة الجيران في «المنكوبين» إليَّ. غدوت فجأة رجلاً، وبات لديّ زبائن مواظبون. أتباع أحد التنظيمات، كان حديثهم جذاباً ويهتمون كثيراً بإقناعي بمعتقداتهم. لاحظوا حساسيتي تجاه السلاح، وعلموا أن والدي سيبيع أية قطعة تدخل المنزل، فالتفوا عليّ من جهة أخرى. كنت أحظى ببعض الاهتمام في المنزل حين أقوم بتقليد بعض الشخصيات التلفزيونية. يضحك أفراد العائلة بضع ثوانٍ ثم يتجاهلونني. تجاهل أحدنا للآخر ضروريّ حتى ينجح ثمانية أفراد من الاستمرار في العيش معاً في غرفتين لا تتجاوز مساحتهما ستة عشر متراً. مع «الأخوة» كان الأمر مختلفاً. أشعر بأنني محور اهتمامهم، يتحلّقون حولي، سواء في الشارع أو في الجامع. ينتظرون نطقي بكلمة ليتحدثوا ساعات. يسألون عن احتياجاتي. ويؤكدون تعليق الإسلام، بكل عظمته، آماله عليّ. حتى الشيخ الذي تظاهرت المدينة كلها لإطلاق سراحه حين أوقف، وتسابق الوزراء على إعادته إليها بسياراتهم يربّت كتفي ويشجعني. استقبلوني كبطل في القلمون. أدلّ الحزام على أحد متاجر الملابس الشرعية. ما كدت أعود لأول مرة بهذا الرداء إلى المنزل حتى جنّ جنون والدي، وبدأت التدخلات لإعادتي من عالمي الجديد المليء بالتحديات إلى عالمي السابق الفارغ من كل شيء. إلا أن الأمور بقيت هادئة حتى أوقفت مرة على أحد الحواجز العسكرية. قال لي المحقق إن والدي طلب إليهم التشدد في معاقبتي لضمان ابتعادي عن جماعة الشيخ. انكسرت علاقتنا، وما كادت المعركة بين الجيش والشيخ شادي تبدأ في الأسواق حتى تسللت من المنكوبين إلى باب التبانة، وهو الطريق نفسه الذي أسلكه اليوم، بالعكس. لا أشعر بالحزام. كان بوسعهم أن يضعوا بدل الكيلوغرامين عشرين كيلوغراماً. عدت مرة واحدة إلى المنزل، منذ غادرته قبل سبعين يوماً، لتهنئة شقيقي بزفافه. قبّلت يدي والدتي وشكرتها على كل شيء. بقيت خمس عشرة دقيقة فقط لخشيتي من اتصال والدي باستخبارات الجيش. أنا واثق من معلومات «إخواني» عن تعاونه مع الاستخبارات للقبض على عدة شبان في «المنكوبين»، رأيت العسكر ينهالون على اثنين منهم بالضرب ويسحلونهما في الأزقة. حاول عمي إقناعي مجدداً بتسليم نفسي، واعداً بتوسط زعيمه السياسي لتخفيف عقوبة السجن. رفضت طبعاً، وحاولت التبسّم أثناء التقاطه بهاتفه صورتين تذكاريتين مع شقيقي وزوجته. إلا أن الأهم أنني لم أجد نفسي في ذلك المنزل: لا أفراحهم أفراحي ولا أحزانهم أحزاني ولا جهادهم جهادي. مجدداً، أنشغل عن هذه الأفكار بترديد الآية «لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا». تتسارع خطواتي في اتجاه مقهى عمران. أراهم في ذلك المقهى، يجتمعون بصخب تحت صور قادتهم. أتذكّر غيرة الشيخ شادي على عاصمتَي العباسيين والأمويين، وأخطو إلى الداخل منشغلاً عن كل ما حولي بصور سياسيينا الحانقين وخطابات إمام جامعنا النارية، وصور من سبقوني التي تملأ جدران المدينة، وبضع آيات.


علي ابراهيم ــ ذكر والده أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه حين فوجئ بوجوده في المقهى أثناء مساعدته في أعمال الإغاثة.

جلست وسط أصدقائي ننتظر انتهاء إحدى المباريات لوصل البلاي ستايشن. كنت مشتت الذهن: يجب أن أضمن مشاركتي في مباراتنا المقبلة، ويجب أن أسجّل هدفاً أقله للفوز بإعجاب لينا، ويجب أن أختار بين التمريض والانضمام إلى المؤسسة العسكرية، وإقناع والدي بقراري. يقلقني إضافةً إلى هذا كله إصرار والدتي المفاجئ على بقائي الليلة في المنزل بحجة البرد القارس، رغم خروج والدي وشقيقيّ. كأنها كانت تريد أن تبقيني لتخبرني سراً. فجأة رأيته يدخل. خلافاً لغالبية مقاهي الجبل، لا يعرف كل رواد مقهى عمران بعضهم البعض، إذ يقصده كثيرون من خارج الجبل، وخصوصاً من «المنكوبين» أيام الهدن. كان كأنه غير مرئيّ لكل الموجودين. لكنّ عينيّ التقتا عينيه. لعلنا التقينا مرة في إحدى المباريات خلال الهدن القصيرة. لعلنا التقينا في الماراتون. لعلي اشتريت منه الخرنوب مرة. لعله يشجع ريال مدريد هو أيضاً. لعله يتراجع في اللحظة الأخيرة. لعله يعلم أن المقهى يقع في الوسط تماماً بين بيتي وبيته. لعل الحزام يتعطل.


طه الخيال ــ أفرج عن والده بعدما أُوقف للتحقيق معه ثلاثة أيام، ولم يبد علانية أية حسرة على موت ابنه.

أربكتني عيناه. شعرت بأنه على وشك الصراخ، فلم أقوَ على التقدم أكثر وفجّرت الحزام فوراً. تطايرت الكرات الحديدية بشتى الاتجاهات، لكنني كنت أود أن أصيبه شخصياً. طاولته شظية واحدة. تناثرت أشلائي فيما همد هو في كرسيه. ولم يبلغ الانفجار الثاني زاويته. فجأة دخل والده. تذكرت أنني رأيته مرة يوصله إلى المدرسة، ورأيتهما مرة يلعبان بفرح عارم كرة القدم، وقد ناوله مرة خمسمئة ليرة ليشتري مني كوب خرنوب ويترك لي بقشيشاً مئتين وخمسين ليرة. أتذكر علي يطارد إحدى الفتيات بدراجة صديقه النارية، وهي تطارده بابتساماتها. لم يكن والده يتخيّله هنا؛ ظنّ أنه بقي في البيت مع والدته التي تخاف من الرعد. انحنى فوقه. كانت أنفاسه متقطعة. تذكرت أنفاس والدتي في الغرفة المجاورة لغرفتنا. كانت عيناه الزائغتان تبحثان عن عيني، بقيتا مفتوحتين حتى أغمضت عيني.