في سلسلة الخطب التي ألقاها حسن نصرالله قبل أسابيع في عاشوراء، ورد في واحدة من خطبه ما يلي: «هناك بدايات إلحاد، وهناك حديث عن موجة إلحاد». وجاء كلامه في معرض التحذير من خطر التكفيريّين وفي محاولة منه لتوحيد الجهود بين الحركات الإسلاميّة السنيّة والشيعيّة، بهدف التركيز على «خطر مشترك». لكن ما إن تفوّه نصرالله بكلامه، حتى انهالت الأصوات الليبراليّة (العاملة حكماً في إعلام النفط والغاز) تهاجمه وتنتقده من منظور العلمانيّة والحرص على الحريّات الفرديّة. حتى الكاتب الهادئ أمين قموريّة، ردّ على نصرالله (وهذا مستغرب لأنه ليس من عادة قموريّة الردّ على خطب قادة حتى عندما شطّ الكثير من زعماء 14 آذار في خطب طائفيّة تحريضيّة ومهادنة للعدوّ الإسرائيلي) بقوّة.

أكثر من هذا، قال قمّوريّة في ردّه إن نصرالله «أطلق سهامه على الملحدين». أي ان كلام نصرالله أصبح في ترجمة قموريّة عنفاً (كما يصوّر خطاب 14 آذار كل نقد وكل كلام صادر عن 8 آذار - خصوصاً عن حزب الله - على أنه «اغتيال سياسي» أو «دعوة إلى القتل» أو «تصفية خصوم»). لكن نسأل قموريّة: أين اطلق نصرالله سهامه وكلامه (على خلافي معه كما سيرد لاحقاً) جاء عرضاً وليس برنامجاً للعمل او تحريضاً؟ لكن منطلق قموريّة الليبرالي (ظاهراً) يتناقض بعد سطور قليلة عندما يضيف: «وإن كنتُ أوافقه على أن ثمّة نوعاً من الإلحاد يعادل التكفير، وخصوصاً ذلك الإلحاد الكافر بكل شيء والرافض لكل القوانين والقيم والمبادئ». أي أن قموريّة الذي كرّس مقالاً للردّ على نصرالله (والردّ ليس من شيمه) يعود ليتفق مع نصرالله في «إطلاق السهام» ضد الكافرين، بحسب وصفه. أي إن قموريّة بدأ مقالته برفض نقد الإلحاد وانتهى بالموافقة على «إطلاق السهام» ضد الملحدين إذا ما انتموا إلى فئة الإلحاد التي يرى قموريّة خطراً فيها.
إن حركة الإلحاد
الغربيّة المُنظّمة باتت ستاراً غير واق لإيديولوجيّة العداء للإسلام

لكن تعليق قموريّة يستدعي السؤال: ما هو الكفر «الرافض لكل شيء»؟ هل هذا تعريف كاريكاتوري للإلحاد أم ان قموريّة يريد ان يقول ان قمع الإلحاد مقبول على ان يطاول تيّارات إلحاديّة يحدّدها قموريّة بتلك الرافضة «لكل القوانين والقيم والمبادئ». طبعاً، إن التصوير الديني للكفر يظهره على انه خال من القيم ومن المبادئ، ليس لأن ذلك صحيحاً بل لأن المبادئ والقيم الإلحاديّة تتعارض وتتناقض مع قيم ومبادئ الإيمان. ويحاول قموريّة التوفيق بين الإيمان والإلحاد عبر الخلاصة التي يقول فيها: إن قدرة الإلحاد على إثبات عدم وجود الله يماثل قدرة المؤمنين على إثبات وجود الله. نسي قموريّة ان العلم ونظرته إلى نشوء الكون أثبت (علميّاً) من نظريّة التكوين دينيّاً. لكن هذه المقالة ليست عن الإلحاد والإيمان بقدر ما هي عن معايير الحكم على الإيمان والإلحاد في المجتمعات العربيّة والغربيّة على حدّ سواء.
لم يقتصر الردّ على نصرالله على مقالة قموريّة. توالت صيحات الاستنكار والإدانة في كل وسائل الإعلام الحريريّة وتلك التابعة لسلالات الخليج. لكن السؤال طبعاً عن سبب سكوت كل هؤلاء عن دولة تعتنق عقيدة التكفير وقطع رؤوس الملحدين و»المشعوذين» والسحرة. لم يطالب نصرالله بقتل الملحدين، لكن أشار إلى «خطرهم» كنتيجة لتنفير المؤمنين من المسلمين من الدين بسبب أفعال التكفيريّين (وقد يكون نصرالله على حق في ذلك إذ ان هناك انتعاشاً ما في صفوف الملاحدة العرب، خصوصاً في مملكة القهر العربيّة التي سُجلّت فيها أعلى نسبة ملحدين في كل البلدان العربيّة (5%) التي أجرت فيها مؤسّسة «غالوب» استطلاعاً، كما أن 19% وصفوا أنفسهم وأنفسهنّ بغير المتديّنين. أين كان استفظاع هؤلاء الكتّاب عندما كانت رؤوس من اتهم بالإلحاد (غالباً زوراً) تدحرج في الساحات العامّة في الرياض؟ هل يريد هؤلاء أن يقنعونا ان «حملة» حزب الله - إذا كان هناك من حملة – على الملاحدة تماثل حملة النظام السعودي والإماراتي وبعض عصابات «الثورة» السوريّة؟ والليبراليّون الذين استفظعوا كلام نصرالله صمتوا عن البرنامج الرسمي لمكافحة الإلحاد الذي تنتهجه حكومة الطاغية السيسي لكن السيسي حليف لآل سعود، وهذا كل ما تريد ان تحتاج معرفته.
ولقد رصد الكاتب البريطاني، بريان ويتكر، في كتابه الجديد، «العرب من دون الله: الإلحاد وحريّة المُعتقد في الشرق الأوسط» طبيعة سياسات مكافحة الإلحاد في مملكة القهر السعوديّة. وفي قانون مكافحة الإرهاب السعودي المُسنّ عام 2014، ساوى آل سعود بين الإرهاب وبين الإلحاد والتشكيك في أسس الدين. أين كان الحسّ الليبرالي عندما سُجن واضطهد مُغرّد سعودي بسبب تغريدة اعتبرت مُهينة للدين. لكن لا تستطيع ان تأخذ حركة تفتقر إلى المصداقيّة بألف طريقة وطريقة على محمل الجدّ، لكن موضوع الإلحاد والعلمانيّة (والمفهومان ليسا متماثلين) جدّي يستحق النقاش.
على الحركات الدينيّة العربيّة ان تدرك ان لا قدرة لها، مهما قويت ومهما اقتربت من السلطة، على فرض الإيمان بالقوّة على كل أعضاء المجتمع. وإذا جاء في القرآن نفسه «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليفكر» فمن الحريّ بهم الاعتراف بعدم قدرتهم على فرض الإيمان على الجميع: تستطيع ان تغزو المنازل والمخيّمات لكن لا يمكن أن تغزو العقول وتحتلّها. شهد التاريخ الإسلامي أصوات متعدّدة من الزندقة والإلحاد والتشكيك وتعاملت معها الدول الإسلاميّة بطرق مختلفة لكن بعضها كان أكثر تسامحاً من تعامل دول الخليج الحاليّة.
ولقد توصّل حزب الله في عهد نصرالله إلى مرحلة من النضج السياسي الذي يجعله يتمنّع عن فرض الآراء أو القناعات بالقوّة (يتعرّض حزب الله لحملات وتشنيعات في كل الإعلام النفطي والغازي والحريري، ثم يقول كاتب في هذا الإعلام إن حزب الله يفرض الرأي الواحد لأنه قرأ نقداً له على «فايسبوك»، وقرّر أن مجلس شورى الحزب هو الذي كتب النقد على «فيسبوك»). لقد مرّ حزب الله بتجارب مختلفة (وكان بعضها مخيفاً خصوصاً في مرحلة قيادة صبحي الطفيلي) وحاول في الثمانينيات وأوائل التسعينيات فرض مفهومه عن الفضيلة على مجتمع جنوب لبنان وبقاعه وضاحيته، وباءت تلك المحاولة بالفشل الذريع وإن كان بعض غلاة الحزب يحاول في منطقته أو قريته فرض مفهوم الحزب الخاص بالفضيلة. ولقد تعزّز في سنوات الانتفاضات العربيّة واقع وجود فئة علمانيّة (إيمانيّة أو ملحدة) صلبة في المجتمعات العربيّة. ولقد أدّى صعود «الإخوان» في مصر إلى توحيد جهود وقوى القطاعات العلمانيّة في المجتمع وتأييدها لمشروع الطاغية السيسي. لكن السيسي بعد أن وصل إلى السلطة قرّر أنه هو الآخر يحتاج إلى جرعة من الشرعيّة الدينيّة فشنّ حملات على الإلحاد وأعلنت حكومته انها ستكرّس برامج لتوعية الناس وإبعادها من خطر الإلحاد. ولقد بدأت في عهد السيسي محاكمات باسم الدين وفرضه على المجتمع، وجزر من يعبّر عن سخرية دينيّة أو طقوسيّة.
لكن الإلحاد - في المقابل - أو العلمانيّة المحضة (نظريّاً) لا تضمن تحقيق المساواة والعدل بين الناس: كان نظام الاتحاد السوفياتي علمانيّاً لكنه شهد أعمالاً قمعيّة استهدفت فئات دينيّة أو إثنيّة، كما أن علمانيّة نظام صلاح جديد الصارمة - قد تكون أكثر التجارب العربيّة العلمانيّة صرامة - لم تضمن تحقيق العدل والمساواة وشاب التجربة تحالفات أقلويّة على مستوى القيادة. وتجربة أنور خوجا الألبانيّة هي دليل آخر على عدم ضمان فرض العلمانيّة والإلحاد للحقوق الفرديّة.
لكن في المقابل، هناك دلائل أخرى عن الإلحاد والابتعاد من الدين في المجتمعات. إن كتاب «دليل كايمبردج للإلحاد» يتضمن الخلاصة التالية لفيل زوكرمان: «إن البلدان التي تتضمّن نسباً عالية من غير المؤمنين تكون من أكثر الدول ثراء وصحّة في الأرض». (وتضمّنت دراسة زوكرمان مقارنة بين الدول على أساس العلاقة بين الإيمان أو عدمه وبين التراتبيّة في تقرير مؤشّر «التنمية البشريّة» الصادر عن الأمم المتحدة. وبين الدول الـ25 الأولى في تقرير التنمية، كلّها، باستثناء إيرلندا، تتضمّن نسباً عالية من «الإلحاد العضوي» (وميّز زوكرمان بين دول «الإلحاد العضوي» -الناتج من الخيار الفردي الحرّ- وبين دول «الإلحاد القسري» المفروض من الحكومات مثل كوريا الشماليّة). أما الدول الأربعين الأفقر في العالم، كلّها، باستثناء فييتنام، تتضمّن نسباً عالية من التديّن. لكن زوكرمان لا يصل إلى القول إن الإلحاد هو الذي يؤدّي إلى الرفاهية والصحّة والثراء، بل يفترض ان انتشار الرفاهية والصحّة والأمن الاجتماعي تسبّب نزوعاً أقل نحو الدين، وميلاًً اكبر نحو الإلحاد، وان شعوب الدول الفقيرة تميل أكثر إلى الدين لأسباب عديدة.
لكن الحديث عن مواضيع الإلحاد والعلمانيّة يجب ان يتطرّق حكماً للانتقائيّة خصوصاً أن «العقلانيّين العرب» (أعطت «مؤسّسة ابن رشد للفكر الحرّ» العقلانيّة جائزة العام الماضي إلى راشد الغنّوشي) يعبّرون عن إيمان كلّي ومطلق بقدرة العلمانيّة على حلّ كل مشاكل الأمّة، ويتعاملون مع العلمانيّة الغربيّة من دون اعتبار لا لنواقصها ولا لعيوبها ولا لقصورها ولا لتناقضها الداخلي الصارخ. والانتقائيّة هذه تبرز أكثر ما تبرز في أقطاب الإلحاد الغربي. وريتشارد دوكنز يُعتبر اليوم أبرز مُفكّر غربي في الدعاية للإلحاد. ويتضح في كتاب دوكنز، «وهم الله»، ان أجندة الإلحاد الغربي (شبه) المُنظّم لا يخفي عداء شديداً وحصريّاً ضد الإسلام. لا بل إن أبرز دعاة الإلحاد الغربيّين (سام هاريس وبيل موهر وكريستوفر هيتشكنز) هم أنفسهم أقطاب في حملة الإسلاموفوبيا الغربيّة. وكتاب دوكنز المذكور أعلاه يظهر اختلالاً فاضحاً: فخطابه عن المسيحيّة واليهوديّة لا يمتّ بصلة إلى خطابه عن الإسلام. فالكلام عن الإسلام ليس مُوجّهاَ ضد المتطرّفين في الدين (كما في كلامه وكلام هريس وموهر وهيتشكنز)، بل هو مُوجه ضدّ كل المسلمين والمسلمات من دون استثناء.
الخطورة إن الحركة الإلحاديّة العربيّة (وهي تنمو لأسباب لا مجال هنا لتحليلها) تعتنق (كالعادة) الفكر الغربي المستورد وبلا كيف. المواقع الإلحاديّة العربيّة تُكرّر من دون سؤال مقولات سام هاريس ورفاقه، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار للدوافع الصهيونيّة الخبيثة لأمثال هاريس الذي دافع عن العدوان على غزة والذي يتعامل مع اليهوديّة والمسيحيّة بغير ما يتعامل مع الإسلام. عند هؤلاء إن المشكلة الفكريّة العويصة تكمن في الإسلام فقط، وعليه لا يتحرّر المرء المُسلم (والمسلمة) إلا بالتحرّر من الإسلام بصورة تامّة. وفي تحرير المُسلم من الإسلام تتحرّر البشريّة بالكامل عند هؤلاء. والمواقع العربيّة الإلحاديّة تتبنّى مقولات وأطروحات وخطاب هاريس وصحبه من دون الفصل بين مفهود الإلحاد المعارض لكلّ الأديان من دون استثناء، والتعصّب الديني الذي يفاضل بين الأديان. أكاد أقول إن حركة الإلحاد الغربيّة (شبه) المُنظّمة باتت ستاراً غير واق لإيديولوجيّة العداء للإسلام. وترجمة هذا العداء تظهر في مواقع الإلحاد العربيّة إذ انها تتعامل مع المسيحيّة واليهوديّة باحترام ومع الإسلام باحتقار. لم يكن هذا عهد الإلحاد العربي في العصر الكلاسيكي (راجع مثلاً كتاب سارة سترومسا، «المُفكّرون الأحرار في إسلام القرون الوسطى: إبن الراوندي وأبو بكر الرازي وتأثيرهما على الفكر الإسلامي»، أو كتاب عبد الأمير الأعسم، «تاريخ إبن الراوندي المُلحد»).
وكما أن الحركة الإلحاديّة الغربيّة تحتاج إلى مساءلة عربيّة من قبل دعاة الإلحاد، فإن العلمانيّة الغربيّة تحتاج إلى مساءلة مماثلة خصوصاً وأن العلمانيّة لم تخضع بعد لنقد عربي (علماني)، غير إسلامي أو غير ديني. هذا ما فعله عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد في كتابه (غير المُترجم) «تكوين ما هو علماني: المسيحيّة والإسلام والحداثة». لا يقبل أسد دوغما الفكر العلماني الغربي ويعيده إلى جذوره التاريخيّة. ويُحلّل العلاقة بين العلمانيّة في تكوينها الأوروبي وبين نشوء القوميّات، ولم تكن العلمانيّة في كثير من الأحيان إلا وصفة للتعايش بين مُكوّنات الدولة الواحدة. لهذا فإن الهجرة الإسلاميّة إلى الغرب المسيحي لم ترد في أذهان المنادين الأوائل بالعلمانيّة. والبلدان الغربيّة (على أنواعها وأصنافها) تشهد نموّاً ملحوظاً للحركات السياسيّة المعادية للإسلام (ليس للإسلام فقط بل للمسلمين لأن عقيدة معاداة الإسلام - مثلها مثل عقيدة معاداة اليهوديّة التي أنتجها الغرب المسيحي - تعادي كل مسلم ومسلمة مهما كان، باستثناء هؤلاء الذين واللواتي يقبلون الاستقالة ليس فقط من دينهم بل حتى من القضايا التي تشغل معظم المسلمين والمسلمات). لا يكون المسلم مقبولاً إلا إذا قبل بتعريف ومفهوم للإسلام يتواءم مع السياسات الغربيّة المعادية للإسلام والمسلمين. وعليه، فإن المسلم الحقّ هو الذي يشارك في قصف مواقع مدنيّة للمسلمين أو الذي يشارك في حروب غربيّة ضد بلاد مسلمة وتوقع عدداً كبيراً من الضحايا المدنيّين المسلمين. ولهذا لا يجد الكونغرس الأميركي حرجاً في صياغة تعريف جديد مقبول للإسلام والحكومة الأميركيّة ومراكز الأبحاث تعيد صياغة مناهج التدريس في دول الخليج الخانعة.
ويلاحظ أسد ان لا فرق في معاداة الإسلام والمسلمين بين اليميني المتطرّف وبين الليبرالي العلماني، أو هو يقول «يصعب التمييز» (ص. 165 من الكتاب المذكور). ويشير أسد إلى المثال الفرنسي عندما قرّر وزير التعليم الفرنسي قبل بضع سنوات ان يبطل قرار ناظرة مدرسة علّقت مشاركة ثلاث طالبات في الدروس بسبب ارتدائهما الحجاب. أدّى قرار الوزير إلى ردّة فعل قويّة من أبرز مثقّفي فرنسا (بما فيهم اليساري السابق ريجيس ديبريه) الذين قارنوا ما بين الرأفة بالطالبات المجرمات (بمعيار قرارات لجنة «العلمانيّة» النافذة، التي ضمّت محمّد أركون) ومحاباة النازيّة في 1938. أصبح مشهد المُسلمة المُحجّبة موازياً لمشهد جنود الجيش النازي وهم يستعرضون في جادات شوارع أوروبا.
إن معاداة مظاهر عاشوراء الأخيرة في لبنان من قبل مدّعي الليبراليّة (والعلمانيّة الانتقائيّة) هي مظهر آخر من استبطان العداء الإسلامي التقليدي برداء الحرب المذهبيّة الخليجيّة (لكن هناك عامل آخر إذ ان حركة 14 آذار تجذب إليها مسلمين يخجلون بإسلامهم ويبالغون ويبالغن في إظهار استبطان عقيدة الطائفيّة المسيحيّة المؤسّسة للكيان المسخ). ليست المظاهر العلنيّة لعاشوراء جديدة، لكنها بدأت تظهر أكثر لأنه لم يكن مسموحاً لا في الدولة (في ما قبل الحرب) ولا في المجتمع بإعلان مظاهر أو رموز الطائفة الممنوعة (حينها). إن التشديد على الاحتفاء بعاشوراء هو مظهر من مظاهر توكيد الهويّة الطائفيّة في زمن التناحر الطائفي. كما أن هناك سبباً آخر بديهياً: يعترض الكثير من العنصريّين البيض هنا على مظاهر التشديد عند السود على هويّتهم السوداء وعلى تعبيرهم عن مظاهر ثقافة سوداء. وينطبق هذا على الأميركيّين من أصل مكسيكي. إن التعبير عن المظاهر الأقلويّة يعود للقدرة المُستجدّة للأقليّات المضطهدة تاريخيّاً على التعبير عن خصوصيتها (إزاء محاولات تاريخيّة إما للإزالة أو للتهميش الدوني). والانتقائيّة العلمانيّة في لبنان تكمن في التعبير عن امتعاض شديد من مظاهر عاشورائيّة (تختزل دوماً بمشاهد التطبير التي تجذب مصوّرين 14 آذاريّين متربّصين) لكن من دون معرفة أو ملاحظة التشابه التاريخي (أو الإقتباس) بين مظاهر التعبير عن الذنب والأسى الجماعي بين المسيحيّة وبين الشيعة. كما ان لبنان يزخر بمظاهر التديّن المسيحي والإيمان الديني (وحتى العلماني) بعجائبيّة مار شربل (وغيره من القدّيسين المحليّين) وكأن التديّن إذا كان مسيحيّاً يبقى في نطاق العلمانيّة المقبولة لكن عاشوراء تخلّ بشروطه. بمعنى آخر، إستورد مثقّفو 14 آذار العلمانيّة الإنتقائيّة الغربيّة مع ما تحمل من عداء ضد الإسلام (أو طائفة في الإسلام في هذه الحالة).
ليست هناك من علمانيّة غربيّة كما يصوّرها دعاتها بين العرب. إن أنساق العلمانيّة الغربيّة تختلف بين دولة وأخرى. كانت العلمانيّة محاولة لبلورة صيغة داخليّة للتعايش لم تلحظ وجود مهاجرين من المسلمين والمسلمات. والعداء ضدّ اليهود تماشى مع تطوّر العلمانيّة الغربيّة إلا أن الحرب العالميّة الثانية أنجبت، بإبتكار أميركي، تلفيقة «الحضارة المسيحيّة ــ اليهوديّة» في محاولة سياسيّة (وليس علميّة تاريخيّة) لتصوير تاريخ من التآلف بين الدينيْن فيما لم تكن نار حرق اليهود قد خمدت بعد. والعلمانيّة الفرنسيّة توفّق بين إصطناع رفض قاطع بحجّة العلمانيّة الفرنسيّة لما هو رداء شخصي لبعض النساء المسلمات وبين حظر إهانة اليهوديّة وحتى التشكيك بالمحرقة. أي ان العلمانيّة الفرنسيّة العريقة تميّز في حساسيّتها العلمانيّة.
هناك من يُشكّك بنظرة الابتعاد من الدين في التطوّر الغربي للعلمانيّة. كارل شميت يرى ان المفهوم الحديث للدولة ما هو إلى علمنة لـ»طروحات لاهوتيّة». في أميركا تطوّر الابتعاد من العلمانيّة المؤسّسة (وبضغط جماهيري) إلى درجة التوفيق بين الدين وبين الوطنيّة (زيدت عبارة «في ظل الله» إلى القسم الوطني عن «الأمّة الواحدة» في القرن العشرين، كما زيد على ورقات العملة عبارة «نثق بالله»). لكن أسد يطرح حجّة قراءة الدين في فكرة الدولة ضعيفاً. مهما كان، فإن وصفة العلمانيّة الغربيّة تجد تحدّيها الحقيقي مع وفود الملايين المسلمة المهاجرة، ولم تقبل العلمانيّة الغربيّة بوجود اليهود قبل محاولة الإبادة الجماعيّة من قبل النازيّة (الأوروبيّة).
إن استيراد البضائع والفكر والملبس والمشرب من بلاد الغرب الأوروبي والأميركي ليس أمراً عفويّا. هناك ملايين تُنفق للبضائع الماديّة والفكريّة للغرب. وليس عفواً ان إعلام وثقافة آل النفط والغاز هي التي تصرّ على فرض خيار لا ثالث لهما: إمّا دولة حميد قرضاي (أو نوري المالكي) باسم الحريّة والديمقراطيّة وإما وهابيّة آل سعود. هناك خيارات أخرى لكنها لا ولن تنبثق عن ثقافة مفروضة بالقوة المسلّحة او الماليّة. وعلى الحركات الدينيّة ان تتعامل مع خصومها العلمانيّين وحتى الملحدين بشيء من الرأفة. ستدور الدوائر، كما دارت في مصر (لتعود وتدور من جديد)، ومشهد العالم العربي المعاصر يدلّ على صعود وهبوط حركات وإيديولوجيّات متنوّعة ومتناقضة. لم يكن لويس السادس عشر يعلم ان رأسه سيُعرض (مقطوعاً) على الملأ.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)