كثرت التوقعات بعد نشر «الأخبار» (20 تشرين الثاني الفائت) تقريراً عن قصر يشيده الموظف في البطريركية المارونية وليد غياض في أراضي البطريركية على أطراف محمية حريصا: توقع البعض أن يرفع واحد من المطارنة يده في اجتماع مجلس المطارنة ليطلب إضافة بند خاص بـ»قصر غياض» على جدول الأعمال. وتوقع آخرون أن تتلاقى الهيئات الشعبية المارونية من رابطة مارونية ومؤسسة انتشار ومجلس ماروني وغيره مع القوى السياسية المسيحية لتسائل السلطة الكنسية، دفاعاً عن حقوق من يمثلونهم. ولم تخلُ الأمنيات من تخيل البطريرك بشارة الراعي يبادر بنفسه لوضع حد لـ»المهزلة» عبر تحويل القصر إلى مقر لجمعية خيرية أو غيره.في الوقت عينه، سعت وسائل إعلامية إلى الإفادة من «كسر التابو» للإضاءة على ملفات فساد أخرى في بعض الأديرة، وفتحت ملف المحاكم الروحية.

في موازاة محاولة بعض الشبان الكسروانيين تنظيم تحرك رمزي باتجاه البطريركية المارونية لعرض أوضاعهم ومطالبتها بإعطائهم أرضاً مماثلة لأرض غياض، وسعي أصحاب العقارات المحيطة بالصرح البطريركي إلى تسليط الأضواء على قضيتهم عبر اتهامهم علانية «أحد الموظفين في الصرح البطريركي» بطلب 300 ألف دولار لحل مشاكلهم.
إلا أن التوقعات الإيجابية بقيت بعيدة عن الواقع. لم يغامر مطران واحد بمطالبة البطريرك بوضع حد لنفوذ آل غياض في الصرح، خصوصاً أن السؤال عن مشاع بكركي سيفتح باب مساءلة بعضهم عن مشاع أبرشياتهم و»وليد غياض» الخاص بهم. ويكفي رؤية نوع السيارات التي يفد فيها الرهبان إلى اجتماعهم الشهري وموديلاتها حتى يتأكد المشككون من أن توقعاتهم لم تكن في محلها. أما الرابطة المارونية (التي تتالت إنجازاتها في العامين الماضيين) فأصدرت بياناً رأت فيه أن الإضاءة على استفادة أحد الموظفين في البطريركية من مشاعها لتشييد قصر خاص به هو «حملة مشبوهة تطاول مقام البطريرك بهدف التشويش على مواقفه المبدئية في الدفاع عن القيم التي قام عليها لبنان»،
قال غيّاض إن
قوى سياسية أسكتت «الأخبار» وإن رجال أعمال «أطعموا» كاتب التقرير


فيما يبدو واضحاً أن التغيير والإصلاح السكني والتربوي والصحي والاجتماعي في المؤسسات الكنسية غير مدرج على جدول أعمال الأحزاب المسيحية. أما البطريرك فوضع التقرير الذي ترجم إلى عدة لغات (ودخل في مسابقتين دوليتين تعنيان بالتحقيقات الاستقصائية) في سياق «حملة دولية على بكركي»، مؤكداً أن هناك من «امتهن لغة الكذب والتجني لقاء حفنة من المال».
عملياً، عمد غياض في المرحلة الأولى التي تلت نشر «وليد غياض يفوز بقصر بطريركي» إلى التمسكن، مسوقاً أخباراً عن رفض أبنائه الذهاب إلى المدرسة حتى لا يهانوا أمام أصدقائه، وعن تدهور حالة والده الصحية وربط زوجته مستقبلهما الزوجي بإنجازه قصر الأحلام. وهو عاتب رجال الأعمال الذين لم يحافظوا على سرّية هداياهم له. إضافة إلى إقناعه نفسه وآخرين بأن الحديث عن مخالفة تخصه إنما هو حملة على الموارنة في لبنان والخارج عموماً والبطريركية المارونية خصوصاً. وهو فاز هنا بعطف عدة رجال أعمال تضامنوا معه في هذا «الظرف العصيب». لكن ما كاد غياض يتأكد من لامبالاة البطريرك والمطارنة بما نشر حتى انتقل إلى المرحلة الثانية التي بدأها بلقاءات مع كتّاب ومحللين وأصحاب مواقع إلكترونية لإيقاف اندفاعة بعض المحررين في الإضاءة على بعض ملفات الفساد، زارعاً في رؤوس هؤلاء السؤال العبقري نفسه عما يدفع وسائل الإعلام إلى الإضاءة على شؤون طائفة دون غيرها، كأن التقرير عن قصره يجب أن يكون مرفقاً بـ18 تقريراً عن قصور المسؤولين الإعلاميين في كل من المجلس الشيعي الأعلى ودار الإفتاء ومشيخة العقل ومجالس الروم الكاثوليك والأرثوذكس و... وصولاً إلى الأقباط والاسماعيليين واليهود، حتى يكون مقبولاً. وفي الوقت نفسه، كثف غياض اتصالاته بأحد رجال الأعمال المقربين من مرشح رئاسي لتسريع تملكه الأرض الجبيلية النائية التي لا يتجاوز ثمنها في تقدير أحد الخبراء مئتي ألف دولار بهدف مقايضتها بالأرض الكسروانية التي يشيد قصره فيها ويتجاوز ثمنها في تقدير الخبراء ثلاثة ملايين دولار. وتجدر الإشارة هنا إلى تداعي عدة رجال وسيدات أعمال ومطارنة إلى اجتماع مع البطريرك عرضوا فيه شراء منزل مميز لغياض، قانوني مئة في المئة ويضع حداً لأحاديث الصالونات عن «قصر غياض»، إلا أن مساعيهم باءت بالفشل. وبناءً عليه، انتقل غياض إلى المرحلة الثالثة: الهجوم. كرر القول لزوار الصرح إنه أجرى اتصالات سياسية لإسكات «الأخبار» وإن عدة رجال أعمال تكفلوا بـ»إطعام» كاتب التقرير. في وقت تضاعف فيه عدد العمال في القصر وحوله، وزين لاستقبال الأعياد قبل أن يسكنه أهله المفترضون، وأضيء ليراه كل المشككين بقدرة غياض على الذهاب في هذه الفضيحة حتى النهاية. وثمة من يتندّر بالقول إن التأخير في انتخاب رئيس للجمهورية سيدفع الطموحين إلى الفوز بهذا الكرسي إلى مضاعفة هداياهم، كمّاً ونوعاً، ليتمكن صاحب القصر، العام المقبل، من الاحتفال بالعيد في منزله الجديد واستقبال المهنئين به. عملياً، يبقى أمام مشروع غياض عقبة واحدة، هي الموافقة الفاتيكانية على مقايضة أرضه الجبيلية بالأرض الكسروانية. فتبعاً للقرارات الكنسية، يمكن البطريركية تأجير أراضيها بحرية مطلقة، أما بيع أوقافها أو مقايضتها فيتطلب ثلاثة تواقيع فاتيكانية في ثلاث دوائر مختلفة. ويراهن غياض في هذا السياق على عدم التفات الدوائر الفاتيكانية إلى القيمة العقارية للأرض الكسروانية التي تتجاوز عشرة أضعاف قيمة الأرض الجبيلية، التي انتقلت ملكيتها إليه من بنك المدينة مروراً بمصرف لبنان، مفترضاً أن الفاتيكان سيقارن مساحة الأرضين ويوافق على المقايضة لأن أرض جبيل (في قعر أحد الوديان) أكبر من أرض كسروان (المطلة على خليج جونية والمحاطة بمحمية حريصا). كأنه لا يعلم أن الفاتيكان في عهد البابا فرنسيس يدقق بتفاصيل التفاصيل في كل الملفات دون استثناء، ويسعى إلى توجيه ضربات موجعة لمظاهر الفساد الكنسية في مختلف أصقاع العالم. فالبابا الذي يبيع هداياه، بما في ذلك السيارات والساعات والقبعات، ليتبرع بثمنها للفقراء لن يتردد بتحويل القصر البطريركي إلى مأوى للعجزة أو مسكن للطلاب أو مستوصف أو غيره. ويذكر ختاماً أن الرشى التي كانت عبارة عن هدايا عقارية وخدمات جنسية كانت أساس فضيحة «المرتل النيجيري» التي هزت الفاتيكان قبل خمس سنوات.