لا نعني، فقط، «معتدلي الجيش الحر» الذين انضمّوا إلى مجرمي «داعش» في الهجوم الفاشل على مطار دير الزور العسكري؛ بل، أيضاً وأساساً، كل عناصر الجوقة السياسية والإعلامية التي ترفع شعارات «الديموقراطية» أو تدّعي الاعتدال. فخلال يومين من الاشتباكات حول المطار الصامد، شنت «تنسيقيات المعارضة» ومئات المواقع الإخبارية والصفحات على الفيس بوك، وعشرات الفضائيات، حملة إعلامية موازية كثيفة من الأخبار الكاذبة والتلفيقات الهادفة إلى تحطيم المعنويات السورية لصالح «داعش».
اختفت، فجأة، كل الصراعات بين أطراف «المعارضة» و«الثورة» والإرهاب في سوريا، ووقفت، جميعاً، صفّاً واحداً، مشغوفةً بتحقيق نصر دراماتيكي على الجيش السوري. وعلى هذا، أصبح التكفيريون الإرهابيون، في الإعلام الأسود، «معارضةً مسلحة» و«ثواراً»!
في الأثناء، وقف الرئيس الأميركي، باراك أوباما، يمتدح ضيفه الملك عبدالله الثاني، لما تقدمه عمّان من مساعدات للجماعات المعتدلة لمقاتلة «داعش» في سوريا. من حيث المبدأ، تثير هذه المقاربة الخبيثة الملتوية اللاعقلانية في دعم ارهابيين لـ «محاربة الإرهاب»، السخطَ، ولكنها تثير، من حيث التوقيت، السخرية. فبينما كان أوباما مبتهجاً بدعم المسلحين «المعتدلين»، كان هؤلاء يقاتلون الجيش السوري تحت الراية الداعشية.
واقعياً، تمثّل «داعش»، رأس حربة للمعارضة السورية بكل أطيافها وبلا استثناء. فالقضية، هنا، لا تتعلق بالأيديولوجيا والألاعيب السياسية، ولكن بحركية موازين القوى على الأرض: المعارضة المرتبطة بأعداء سوريا الإقليميين والدوليين، تفيد من كل انجاز تحققه «داعش»، لأنه قد يُسقط النظام أو يضعفه، فيستسلم! أو، على الأقل، هناك الجائزة الأميركية المنتظرة، أي وراثة مناطق السيطرة الداعشية؛ أما المعارضة الراغبة في الحل السياسي والانخراط في موسكو 1، فهي معنية، أيضاً، بأن تتفاوض مع نظام ضعيف أنهكته «داعش»، ويتخوّف من مآل الحرب الأميركية عليها.
تحوّلت مليشيات البغدادي، فعلياً، إلى رافعة سياسية رئيسية لمناهضي النظام السوري؛ وقد كشف التعاطف الاعلامي العلني معها، علاقاتٍ متشعبة للدواعش مع إعلاميين وصحافيين ومثقفين. أحدهم، وقد كان على علاقة وطيدة مع بن لادن، يسعى للبغدادي، ويناور؛ فيما موقع «جديد» لا يخفي أنه ينقل عن «مصدره! من داخل تنظيم الدولة الاسلامية!»، تقارير تبشّر القرّاء بقرب سقوط مطار الدير. كانت الأخبار تتوالى عن انتصارات «جيش الخلافة»، وحين هُزمَ، صمت الموقع، وتناسى قصته الأثيرة على مدار 48 ساعة، متجاهلاً، كما المواقع الداعشية العديدة الأخرى، نشر أي صورة لجثث المجرمين الذين حصدتهم نيران الضباط والجنود السوريين البواسل.
هذه المرّة، أحسنت القيادة العسكرية المحلية في الدير، صنعاً، في تصوير وبث تسجيل ــــ وإنْ كان بدائياً ــــ عن قتلى «داعش» بالعشرات، ملقىً بجثثهم كالقمامة في شاحنة سارت في الشوارع، وسط ابتهاج الجنود والمواطنين؛ تكتيك إعلامي مضاد للإعلام الداعشي الذي استغلّ أفلام الذبح والتمثيل بجثث الشهداء، لبثّ الرعب في القلوب؛ فليكن الرعب بالرعب؛ جرّعوهم بما أجرموا بجنودنا وأهلنا، اقتلوهم أمام الكاميرات، وأصنعوا أفلاماً تثير الهلع في نفوس الأعداء، وتحدّ من تجنيد الإرهابيين؛ ولا تعتمدوا على الإعلام الرسمي المنشغل بالحوارات المطوّلة مع «الخبراء الاستراتيجيين»؛ درّبوا جنودا وضباطا على انتاج الأفلام، أنشئوا عشرات المواقع الإخبارية والقنوات على اليوتيوب؛ انهضوا بالجبهة الإعلامية، ولا تتركوها للبيروقراطيين.
لدينا، بالفعل، تجربة اعلامية عسكرية تستخدم وسائل الاتصال المجتمعية، كليبات وتقارير وأغاني، أذكت الروح المعنوية لجماهير الدولة السورية، وبثت الخوف في مفاصل أعدائها؛ تتمثل التجربة في منتجات إعلامية بلا خبرات ولكنها حية، تشخصن بطولات ضابطين سوريين، سهيل الحسن (النمر) وعصام زهر الدين؛ بالتأكيد، هناك العديد من أمثالهما في الجيش السوري، والكثير من قصص الشجاعة والإقدام والشهامة؛ رجال وحكايات ومعان يمكن تحويلها إلى منتجات اعلامية من لحم ودم وأسماء وعواطف وقيم، خارج القوالب الجاهزة.
سوريا، اليوم، هي، في الدرجة الأولى، جيشها العظيم؛ ويبدو أنه يقع على عاتق هذه المؤسسة بالذات، لا مسؤولية الحرب العسكرية فقط، بل ومسؤولية الحرب النفسية والإعلامية وتنظيم الحياة اليومية والمعيشية ورعاية الجرحى وأسر الشهداء ولئم جراح المجتمعات المحلية وتحسين شروط المواجهة في كل مجال. فللأسف، ها نحن نقترب من نهاية السنة الرابعة من العدوان على سوريا، من دون حكومة الحرب، أو اقتصاد الحرب، أو إعلام الحرب أو ثقافة الحرب؛ فلنسلّم المسؤولية، في كل هذه المجالات، للمحاربين، للجيش الذي لا تهتزّ على أكتافه النجوم.