منذ الأشهر الأولى التي سبقت سقوط النظام البعثي البائد في عام 2003 حتى الآن؛ وحزب الدعوة الإسلامية يعيش ظرفاً استثنائياً تاريخياً ضاغطاً على كل المستويات؛ الأمر الذي لا يزال يتسبب في حالات من الإرباك في حركة الدعاة، ولاسيما في مجال الأداء السياسي والتنظيمي. وتتطلب معالجة هذا الإرباك إيجاد التكييفات الفقهية والفكرية المطلوبة، والمراجعة للمتغير في فكر الدعوة ووسائلها ومواقفها؛ بالصورة التي تجعل دعوتنا المباركة منسجمة مع أسسها وثوابتها الايمانية والفكرية والسياسية والتنظيمية، ومع متطلبات الواقع.
ويستدعي ذلك الوقوف بتركيز على ماهية «الدعوة» ونظريتها وأسسها من جهة، والواقع الذين تعيشه الدعوة من جهة اخرى.
إن الدعوة – كما نستنبط من ثوابتها – تنظيم إسلامي عقيدي تغييري؛ يرمي الى بناء الكتلة المؤمنة الصالحة الواعية التي تحرك الأمة باتجاه تحقيق غايات الشريعة الإسلامية؛ على مستوى الفرد والجماعة والأمة. ولا يفارق حزب الدعوة الإسلامية ثوابته العقيدية والفقهية والفكرية التي تأسس عليها، وهي الثوابت التي تمثل فلسفة وجوده. مع الأخذ بالاعتبار ان الشريعة السمحاء فتحت الأبواب أمام المشترعين للتجديد في الأفكار الإسلامية التي تقع في دائرة المتغيرات، والتجديد في الأدوات تبعاً لذلك. أي إن أدوات العمل الدعَوي وأساليبه هي المساحات التي تتحرك فيها آلة التغيير والتجديد والتطوير؛ بالشكل الذي ينسجم مع متطلبات الزمان والمكان والوقائع الجديدة والمسائل المستحدثة، التي يجب ألا تخرج – هي الأخرى - عن غايات الشريعة ومضامينها.
ومن هنا؛ فإن ماهية حزب الدعوة الإسلامية ونظريته وفلسفته تبقى ثابتة؛ بصرف النظر عن الزمان والمكان؛ بينما تتغير أساليب عمله ووسائله ونتاجاته الفكرية؛ ولاسيما ما يرتبط منها بواقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي والأمني القائم منذ شهر نيسان من عام 2003. ولا يعني الثبات على نظرية الدعوة؛ الجمود على الأفكار القابلة للتغيير وعلى المنهج الحركي ووسائل العمل، كما لا يعني التجديد والتغيير؛ الانفلات الفكري أو التخلي عن الثوابت الشرعية والفكرية.
ولا يخفى على الدعاة والأمة أن التطورات الواقعية غير المسبوقة التي لازمت مسيرة الدعوة في مرحلة ممارسة الدعاة للحكم؛ لم تكن الدعوة قد استكملت استعداداتها لها فكرياً وفقهياً وسياسياً وتنظيمياً وأمنياً؛ الأمر الذي تسبب في رؤية غير مكتملة الوضوح لدى بعض الدعاة، كما تسبب في اضطرار بعض الدعاة الى التعامل اليومي مع الأحداث ومع التطورات؛ سواء على مستوى الفعل أو رد الفعل؛ دون تخطيط إستراتيجي مسبق.
إن أهم مداخل المراجعة ودوافعها؛ هي المحاسبة الدائمة للنفس؛ وهو مبدأ إسلامي أصيل وضعه حزب الدعوة الإسلامية في صلب وسائله الرامية الى التأمل في واقعه واكتشاف أخطائه وتصحيح مساراته. وتستوعب منهجية المحاسبة الموضوعية؛ الفرد الداعية، ومجموع الدعاة، وجماعة الدعوة.
و أن تكون النفس مرآةً لنفسها؛ فتحاسبها؛ هي مقدمة واجبة لفعل واجب؛ أي إنها مدخل المراجعة والمعالجة. وبهذا فالمحاسبة فعل واجب وليس مستحباً أو مباحاً وحسب، ولا يصدر إلّا عن منظومة فكرية محكمة ورصينة؛ تعي تكليفها الشرعي وتمارسه بكل شجاعة ولا تأخذها في الله لومة لائم أو مشكك أو خائف أو شامت؛ بالنطر لوثوق حزب الدعوة الإسلامية بأصالته الفكرية ومتانته الفقهية ونهجه الشرعي، إذ إن تكليفنا التمسك بثوابت عملنا الإسلامي هو أسُّ انتمائنا وهويتنا. ولا شك؛ أن التوكل على الله والثقة به وبالنفس والشجاعة؛ هي القواعد التي تقف عليها أية جماعة حين تعلن عزمها على محاسبة نفسها ومراجعة مواقفها وتجديد أفكارها. أما الخائفون فهم يخشون من أيّ مراجعة، ويقمعون أي توجه - داخل صفوفهم - يطالب بالمراجعة والمحاسبة والتجديد، فيما ظل حزب الدعوة الإسلامية يقف بكل قوة منذ تأسيسه على تلك القواعد الأساسية؛ التي هي مصدر قوته وبقائه واستمراره بإذن الله تعالى.
وإذا كان التجديد في أفكار الدعوة وأدوات عملها هو نتاج المحاسبة ومادة المعالجة؛ فهو - أيضاً - ليس فعلاً مباحا أو مستحباً وحسب؛ بل يكون واجباً في كثير من الأحيان؛ لأنه من أساسيات عملية المعالجة والترشيد والتصحيح. والتجديد هو سنة إلهية تكوينية وتشريعية؛ يفرضها توالد التطورات والأمور الإشكالية وظهور مناطق فراغ جديدة في مساحات التكييف التشريعي. ويكون ملؤها مطابقاً لمتطلبات العصر ومستجيباً للتحديات التي تواجه الدعوة والداعية.
وقد يتساءل بعض المراقبين عن توقيت الحديث عن المراجعة؛ قائلاً: أين كانت الدعوة طوال السنوات الإحدة عشرة الماضية؟ وفي هذا الصدد لا أحبذ أن أكون في موقع المدافع عن إجراءٍ أساس كان عليّ وعلى الدعاة التنظير له والتخطيط لتفاصيله وتنفيذه منذ سنوات، ولكن أقولها للتاريخ،
أقولها للتاريخ؛ إننا مارسنا عملية المراجعة في اكثر من موقع


ومن صميم الحقيقة؛ إننا مارسنا عملية المراجعة في اكثر من موقع؛ وخاصة في مؤتمراتنا؛ ولكننا لم نصل الى ما نصبو اليه؛ لاننا كدعاة - بصرف النظر عن مواقعنا الحزبية والحكومية - لا نزال مشغولين بشدة بمواجهة تحديات العملية السياسية التي نتحمل العبء الأكبر فيها منذ عام 2005 حتى الآن. وعلى الرغم من كل هذه الضغوط التي لا تزال تستنزف وقتنا وجهدنا؛ فإننا لم نكن في غفلة من الزمن كما قد يتصور البعض؛ ولكن بقينا نعمل على وفق رؤيتنا للأولويات، وتقديم الأهم على المهم، ودرء المفاسد عن الأمة وجلب المصالح لها. فكان الأهم بعد عام 2003 هو المحافظة على وجود العراق وتثبيت أسس واقعه الجديد، وتخليص الوطن من براثن العنصرية والطائفية الغائرتين في كل مفاصله منذ مئات السنين، وإنجاح العملية السياسية، ودفع خطر الإرهاب، وبناء القوات المسلحة، وحماية شعبنا من الاستهداف الشامل لأمنه السياسي والثقافي والاقتصادي والمعيشي والاجتماعي، وإنهاء الاحتلال. وإذا كان هناك نقد موضوعي وواقعي لممارسة الدعاة لهذه المهمات ومستويات نجاحاتهم وإخفاقاتهم؛ فإن أبواب الدعوة مشرعة لقبول النقد البناء، وللتصحيح؛ بل سيكون هذا النقد جزءاً من مشروع المراجعة وإعادة البناء.
إن فكرة المراجعة بقيت تتفاعل لدينا منذ عام 2007؛ ولكن ظل معظمها حبيس الأوراق؛ بسبب الضغوط الهائلة للعمل الحكومي. وبالتالي؛ ليست الفكرة وليدة اليوم؛ فقد كنا نستشعر ضرورتها دائماً؛ لانها جزء أساس من ثوابت الدعوة؛ باعتبارها حركة عقائدية، وحزباً متماسكاً، وتنظيماً كبيراً في حجمه ومتميزاً في نوعه. بيد أن فرصة ابتعادنا عن قيادة الحكومة جاءت لتخفف من أعباء العمل التنفيذي، وتعطينا الوقت المناسب لنستعيد تلك الأفكار ونبلورها وندونها ونعلن معالمها الاساسية الآن.

أهداف المراجعة ووسائلها

إن أهداف المراجعة ووسائلها؛ لصيقةٌ بضروراتها ودوافعها التي سبق الحديث عنها. ونستعرض هنا بعض أهم هذه الأهداف:
1- التمسك بمبادئ الدعوة وثوابتها، وتجديد فكرها. ويدخل في أولويات هذا الجانب؛ ضخ المزيد من الفكر التأصيلي والتجديدي في وسائل النشر العامة والخاصة للدعوة؛ ولا سيما الموضوعات التي يجب أن نشتغل على بلورتها بتركيز وعمق في نظريتنا السياسية، كالعلاقة بين الدعوة والدولة والنظام السياسي والحكم، ومشاركة الدعوة في حكومةِ دولةٍ غير إسلامية، وما يترتب على ذلك من تأصيل تجديدي لمفاهيم الوطن والمواطن والوطنية، ومضمون الدولة الحضارية التي نسعى لبنائها على كل الصعد؛ القانونية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
2- التمسك بسلوكيات الدعوة وأخلاقياتها. وهي السلوكيات والأخلاقيات التي حددتها نظرية الدعوة، ومارسها الدعاة الأوائل وشهداء الدعوة، والمستنبطة من صميم الفكر الأخلاقي الإسلامي والسلوكيات التي خطّها لنا رسول الله (ص) وآل بيته الأطهار (ع). فلا بد – إذاً - من تركيز مفهوم كون الدعوة هو نموذج الكتلة المؤمنة الصالحة الواعية النزيهة المضحية، وكون الداعية هو نموذج الإنسان المؤمن الصالح الواعي القوي الصادق الأمين؛ لينعكس هذا النموذج على أداء الدعوة في المجتمع والدولة، وعلى أداء الداعية والدعاة داخل التنظيم وفي المجتمع والدولة أيضاً، ويتحول الى رمزية يقتدى بها، ويشار اليها بالإعجاب والتقدير.
3- تمكين مفهوم أن السلطة أداةً للدعوة لا هدف لها. وفي هذا المجال لا بد للدعوة والدعاة من تفكيك إشكالية علاقة الدعوة بالسلطة؛ على قاعدة أن السلطة أداة لنشر المبادئ الإنسانية العادلة للدعوة الاسلامية. فمن أساسيات نظرية الدعوة التي خطّها يراع الإمام الشهيد محمد باقر الصدر هو موضوع العمل السياسي والدولة والسلطة، وكونها جميعاً أدوات لتحقيق غايات الشريعة الإسلامية، لا هدفاً بذاتها. وبالتالي فكل هذه الأدوات التي يتحرك الداعية في إطارها أو يمسك بها؛ يجب أن يعي أنها مسؤولية كبرى أمام الله تعالى، وأنه يؤدي من خلالها تكليفه الشرعي في خدمة الدين والأمة؛ مهما بلغ موقعه في السلطة والدولة. وعند الحديث عن غايات الشريعة وأهدافها ومقاصدها؛ ربما يستحضر الآخر الفكري بعض الصور المنحرفة والمشؤومة لمزاعم تطبيق الشريعة، التي يعج بها تاريخنا الإسلامي وحاضرنا الشرق أوسطي، وهي في الحقيقة تطبيقات سلطانية لا تمت الى الإسلام بصلة. بينما تتطلع الدعوة الإسلامية عند الحديث عن مفهوم تحكيم الإسلام الى الصورة الحضارية المشرقة التي حددها الإسلام لغايات الدولة في بعدها الإنساني والأخلاقي والخدمي. وسيكون لنا حديث تفصيلي قريب في هذا المجال.
وبما أن مبدأ المراجعة والمحاسبة والتجديد جزء من ثوابت الدعوة؛ فإن فاعليته لن تتوقف عند إنجاز ما يمكن إنجازه؛ بل إنها ستستمر؛ طالما بقيت الدعوة تشرق بنورها على الأمة بإذن الله.
* الأمين العام لحزب
«الدعوة الإسلامية» العراقي