في اطار احتفالاته بعيده التسعين، أقام الحزب الشيوعي اللبناني ندوة بعنوان «النمط الاقتصادي اللبناني – احتمالية البقاء والبدائل المتاحة»، جمعت كلاً من توفيق كسبار (خبير سابق لدى صندوق النقد الدولي ومستشار وزير المال السابق محمد الصفدي) وشربل نحاس (وزير سابق) وألبير داغر (أستاذ جامعي) وأدار الندوة كمال حمدان (رئيس مؤسسة البحوث والاستشارات).
كان يؤمل أن تنتهي الندوة الى مجموعة من الخلاصات التي تخدم العنوان المطروح، وتسهم فعلياً في تحفيز الشيوعيين لاستكمال الطريق وبلورة بديل سياسي - اقتصادي حقيقي. إلا أن ما حملته المداخلات لم يأت بأي جديد.
في الشكل، شكك عنوان الندوة باحتمال بقاء النمط الاقتصادي المتبع في لبنان. المفارقة التي لم تطرق إليها المداخلات، أن التجربة اللبنانية منذ الاستقلال الى يومنا هذا، أثبتت أن النمط الاقتصادي الريعي والمحافظ يمتلك من المناعة ما مكنه من تحقيق فوائض مالية في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية. وحين اندلعت الحرب الأهلية، حافظ المتحكمون بالريوع الاقتصادية على مصالحهم وقاموا بتمويل عملية الانتقال السلس، إن صح التعبير، نحو اقتصاد الحرب. وفي مرحلة ما بعد الطائف، جرى التوسّع في إنتاج الريوع العقارية والمالية، فأكلت ما تبقى من بقايا الاقتصاد المنتج ليختنق جزء مهمّ منه ويختار القسم الآخر الموت الرحيم أو الهجرة الى ما وراء الحدود.
كرر نحاس طرح نظرية
«اختراق النظام» على الرغم
من فشل تجربته

في المضمون، أتت المداخلات بعيدة نسبياً عن المهمة التي حملها عنوان اللقاء. ركز المتداخلون على تشخيص حالة النمط الاقتصادي القائم وتشابك المصالح الموجود. هذا التشخيص على أهميته، لم يضف شيئاً على النقاش القديم، إلا في بعض الجوانب المحددة. إذ ليس جديداً الحديث عن اعتناق البلد للاقتصاد الحر منذ فجر الاستقلال، واعتناق حرية سعر الصرف وحركة نقل الرساميل كقدس الأقداس. وكذلك الحديث عن «الإنجاز المالي الباهر والفشل الاقتصادي الكبير»، حسبما أتى في مداخلة كسبار، فهذه النتيجة كانت أبرز ما حمله كتابه الصادر منذ أكثر من عقد من الزمن. وهذا ينطبق على تشخيص نحاس لدور النظام في إدارة تبادل الموارد (استيراد الرساميل مقابل تصدير اليد العاملة الماهرة)، فهذا النمط ساهم نحاس نفسه في شرحه مطولاً في السنين الماضية. كما ينطبق على السرد التاريخي الذي قدمه داغر عن دور نمط الإنتاج الذي أرسي منذ عهد المتصرفية في تهجير الشعب اللبناني، والذي على أهميته ودقة البيانات الإحصائية التي استعملها، فهو لم يشكل اضافة نوعية في فهم موقع هذا النظام ضمن علاقات التبعية مع اقتصادات دول المركز. وينطبق أيضاً وأيضاً على تذكير المتداخلين الثلاثة بالطبيعة المحافظة للسياسات الإنفاقية للدولة اللبنانية منذ عهد الانتداب. الناس عموماً واليساريون خصوصاً يدركون أن الدولة منذ فجر التأسيس هي في حالة تخلٍ عن مسؤولياتها الاجتماعية ولا يُستعمل الإنفاق العام إلا بما يخدم توسيع سيطرة تحالف المصالح المهيمن وتدعيم سطوته على الحياة العامة.
التساؤل حول احتمالية بقاء الاقتصاد الريعي في لبنان كان يجدر أن يشجع على تقديم إجابات عن سرّ استمرار هذا النمط حتى الآن. فهو أثبت قدرته على تجديد نفسه عبر الأزمات السياسية والأمنية، وكان شريكاً في بعضها تارة أو ممولا لبعضها الآخر تارة أخرى. في التجربة، شكلت هذه الأزمات فرصة للمتحكمين بميزان القوى السياسي والاقتصادي لتحسين موقعهم التفاوضي في تحالف المصالح المهيمن. أما الشق الثاني من العنوان، فإنه كان يفرض البحث جدياً عن بدائل الاقتصاد السياسي الممكنة والقادرة على أن تشكل المنصة الأساسية لتحقيق مسار مختلف. فالبلاد تهرول نحو حالة «الدولة الفاشلة». وتزيد حالة الاحتراب الأهلي وانعدام الاستقرار السياسي وحتى الأمني التي تصيب الإقليم ككل من المخاطر التي تواجه عملية التنمية الاقتصادية في لبنان.
كان يجدر تقديم إجابات عن سرّ استمرار النمط الريعي حتى الآن

نمط الاقتصاد المعتمد في لبنان هو «اقتصاد الحد الأدنى»، أي أنه، على الرغم من عدم مقدرته على إحداث تغيير جذري في نوعية حياة اللبنانيين أو حتى استيعاب فائض اليد العاملة الماهرة، الا إنه محصن في وجه الانهيار الكلّي. وتتدخل المؤسسات الضامنة (الخاصة والعامة) في اللحظات الحاسمة لتمنع الانفجار الكبير. وأحيانا يأتي التدخل من الرعاة الإقليميين. إن العلاقة بين السلطة والاقتصاد في لبنان هي علاقة عضوية. فلا الاقتصاد يمكنه أن ينمو بما يهدد نظام المحاصصات الطائفية القائم، ولا البنية السياسية يمكن أن تهدد مصالح المجموعات المسيطرة على علاقات إنتاج الريوع وإعادة تدويرها.
في الحديث عن البدائل المتاحة عن النمط الاقتصادي القائم، برزت مجموعة من الأفكار التي وردت في مداخلتي كسبار ونحاس. فالأول تحدث عن صعوبة الإصلاح الاقتصادي في بلد يسجل فيه تعايش ما بين دولتين! وأن الفئات الأفقر والأضعف هي التي ستدفع ثمن هذا التعايش. لم يوضح كسبار ما يعنيه بمصطلح «الدولتين». كما لم يتقدم أحد بالسؤال عما قصده من هذا المصطلح وما هي ملامح هاتين الدوليتين، ربما أراد المحاضر والجمهور تفادي أي إحراج قد ينتج من الاستفاضة في مناقشة هذه النقطة. أشار كسبار الى أن اتفاق الطائف كبّل إمكانيات الإصلاح الاقتصادي والمحاسبة بشكل عام، من خلال الربط ما بين الموقع الوظيفي والانتماء الطائفي، فأصبحت محاسبة الموقع محاسبة للجمهور الذي يمثله. أما نحاس، فأشار الى ضرورة اعتبار الساحة اللبنانية الساحة الأساسية للنضال وضرورة التركيز على قنوات التوزيع الثانوية (أسعار الفوائد، الضرائب، التحويلات النقدية...). كما أشار الى أهمية إحداث خروقات في جسم النظام عبر التركيز على أفراد ينشطون من داخل البنى القائمة. إلا أن نحاس (كعادته) لا يريد الإقرار بسذاجة فكرته وفشل تجربته، فتعيينه وزيراً لم يمكنه من إحداث خرق نوعي في منهجية عمل النظام. بقي الخرق عقيماً لأنه أتى على رافعة من خارج البيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة للتجربة.
حدد كسبار دور «اليسار» بمهمة (ليبرالية) هي الرقابة المالية والسياسية (فقط)، وحمّله مسؤولية تردي أوضاع الطبقة العاملة، في حين لم يشر إلى مسؤولية قوى تحالف المصالح الحاكم. وكأنه يقول لليساريين ان لا دور لهم في عملية صياغة البدائل! وهذا ما يتناقض مع الدور الذي يجب على اليسار أن يلعبه في تشكيل بديل حقيقي قادر على إدارة شؤون الناس بطريقة أفضل. هنا أيضاً، انحصر النقاش بكيفية إحداث تغييرات في النظام ولم تحمل المداخلات تصوراً واضحاً لطبيعة وشكل البدائل المتاحة. وحين طرح السؤال عن الدور الذي يمكن لبنان أن يلعبه على المستوى الاقتصادي في هذه المرحلة أو حتى عن شكل الاقتصاد الذي يتناسب مع قدراته الكامنة، كان الجواب المزيد من الكلام السياسي العام والحاجة الى النضال وإحداث اختراقات في بنية النظام!
بالمحصلة، جاءت الندوة أشبه بحلقة تلفزيونية حملت الكثير من الصراخ السياسي وتشخيص متكرر لشكل المعاناة والقليل القليل من التحليل والحوافز النضالية وابتكار المسارات نحو البدائل. بقي اللقاء بعيداً عن لغة اليسار وأقرب الى عقل «المجتمع المدني» السائد.
لم يطرح المتداخلون شيئاً عن رؤيتهم للبديل الاقتصادي وملامحه، وعن المسارات اللازمة لتحقيق نمو تضميني، وعن إمكانية الحديث عن تنمية اقتصادية في الوضع الراهن، وعن ملامح المشروع الاقتصادي الواجب أن يعتمده الحزب الشيوعي اللبناني كبديل لاقتصاد الريوع المتحكم بمصائر اللبنانيين.
في كلمته الافتتاحية، طرح حمدان مجموعة من الأسئلة حول كيفية العمل على خلق البدائل وطبيعة المقايضات الواجب القيام بها، بالإضافة الى شكل المسارات التي نحتاج إليها لبلوغ الأهداف المرجوة. وانتهى بسؤال حول مقدرة اليسار على لعب دور أساسي في عملية صناعة البدائل الاقتصادية، وأي دور للنقابات العمالية، مع الأخذ بعين الاعتبار محدودية تمثيلها وهشاشة بنيتها. وأخيراً، تساءل حمدان عن إمكانية الاستفادة من القدرات التي تختزنها تشكيلات المجتمع المدني غير الطائفية.
لربما يجب اعتماد هذه الأسئلة كخريطة طريق لتركيب ملامح البديل الاقتصادي والاجتماعي الواجب أن يعتمده اليسار عموماً والشيوعيون خصوصاً. ويصح إضافة بعض الإشكاليات حول بنية هذا البديل الاقتصادي وشكل السياسات المالية والاقتصادية الواجب بلورتها لتحقيق هذا المشروع.