قد يكون نهاد المشنوق الأكثر وضوحاً بين القيادات الحقيقية لتيار المستقبل. الرجل لا يمثل فقط جزءاً من تاريخ بيت الحريري السياسي، بل هو يمثل، على الدوام، حساسية تخاطب العقل الجمعي لدى سنّة لبنان، بما في ذلك مواقفه الحادّة أو ميله الى التسويات العامة. وهو، في هذا السياق، يبدو واقعياً، من دون التوقف عند من يحبه أو يكرهه من أهل التيار نفسه أو من بقية الجماعات اللبنانية.في ذكرى وسام الحسن، كان المشنوق يعرض لعناوين، يمكن اعتبارها عناوين أجندته السياسية.

فيها ما يتصل تماماً بموقف المستقبل، لكن فيها أيضاَ ما يمثل التيّار الساعي الى تسوية لا يمكن تحقيقها مع المكابرة. وهو قال الكثير من هنا وهناك. لكنه قدم تصوّراً عمّا يعتقد أغلب سنّة لبنان أنه مطلوب منهم قبل بقية الاطراف. واستعاد تجربة العراق، ليعلن موقفاً رافضاً لقيام السنّة بمهمة مقاتلة الجماعات المسلحة أو المتشددة التي تنتمي بدورها الى الافكار الاسلامية الخاصة بالمذهب السنّي. قال المشنوق يومها: لن نكون صحوات سنّية لبنانية!
ولأن المشنوق، عبّر عمّا يدور في ذهن غالبية ناشطي المستقبل وكوادره وجمهوره وجماعات أخرى، فإن مناقشته تتجاوز خطبته، أو موقفه، بل تستهدف كل المؤمنين بهذا الموقف في التيار، والذين يرفضون المجاهرة بموقفهم لأسباب وأسباب.
الحقيقة أن المستقبل لا يرى المجموعات
الإرهابية عدوّاً له ولا يجد سبباً لعزلها أو ضربها


المطلوب علاجات تقي الخسارة الكبرى، أما
المكابرة فلن تقودإلا الى توسع الحريق

لنعد قليلاً الى تجربة الشيخ أحمد الأسير في صيدا. الداعية الذي بنى حزبية محلية ذات قواعد ونفوذ اجتماعيين، كان يهرب على الدوام من الموقف السياسي. كان يتفادى السجال مع سائليه أو مع المتحدثين. لكنه، على ما قال في حينه، وجد نفسه في مواجهة هذا الاستحقاق، وصار مطلوباً منه الإجابة عن الاسئلة وإعلان الموقف. وهو الشيخ الذي يلتقي مئات المصلين ويزور عائلات كثيرة في بيوتها، قال إنه لمس «الشعور بالغبن والظلم بسبب تعاظم نفوذ القوى الاخرى وهيمنتها، ولا سيما حزب الله وحركة أمل، على الدولة ومؤسساتها، وخصوصاً مؤسسة الجيش»، كما ردّد أكثر من مرة، أنه لمس «إحباطاً حقيقياً من قدرة تيار المستقبل على تحقيق التوازن». فكان أن غادر الأسير موقعه الدعوي لينخرط في اللعبة السياسية من بابها الواسع، مطلقاً حركة تعادي الشيعية السياسية، وتخاصم الممثل الأبرز للسنيّة السياسية في لبنان.
لم يكن الأسير مرفوضاً بقوة لدى الجمهور السنّي العريض. وكان كثيرون يقبلون به، أقله، ناطقاً باسمهم، أو معبّراً عمّا يريدون قوله. وكان إعجابهم به يزداد كلما رفع من سقف خطابه الهجومي ضد حزب الله والقوى الحليفة له. لكن الأسير لم يقس الامور بدقة الخبير، فاعتقد أن القبول به ناطقاً قبول به قائداً، فذهب الى أبعد مما يريده الجمهور والناس، وبدأ يعاني العزلة، وصولاً الى انتحاره يوم موقعة عبرا الشهيرة.
بين حالة سعد الحريري وبقية أركان تياره، وبين حالة الأسير، بدت الصورة قاتمة عند هذا الجمهور وقياداته. وأخطر ما في الأمر هو رفض المراجعة النقدية التي يفترض أن يجريها صاحب دكان صغير، فكيف بجهة سياسية تقود جمهوراً طويلاً عريضاً. فاستعيض عن المراجعة برفع مستوى المظلومية، ورمي المسؤولية على الطرف الآخر. وهكذا، قرر هؤلاء أن فشل مشروع الحريري في السلطة سببه الطرف الآخر، وأن انهيار إمبراطورية الحريري المالية والدبلوماسية سببه الطرف الآخر، وأن عدم تحقيق الاهداف والانتقال من هزيمة الى هزيمة سببه الطرف الآخر، وصولاً الى اعتبار بروز حالات التطرف ودعم المجموعات الارهابية في كل مكان ردّ فعل على سلوك الطرف الآخر. وكان اللصيقون بالحريري يمازحون أنفسهم عندما يخاطبون الطرف الآخر قائلين: إما تقبلنا كما نحن وتخضع لمشروعنا، أو تقبل بديلنا وهو التشدد والارهاب!
لكن ما الذي حصل؟
تشير استطلاعات للرأي تجريها جهات محلية وعربية ودولية أنه لا يوجد في لبنان تأييد لمجموعات «النصرة» و»داعش». ربما تناسب هذه النتائج شخصاً مثل سمير جعجع الذي لا يعرف ما يجب أن يقوله لجمهوره. لكن الحقيقة الفعلية، التي يعرفها تيار المستقبل وقيادات كثيرة لبنانية وعربية وحتى دولية، هي أن في لبنان تأييداً مضمراً لهذه القوى، وأن عدم التصريح مرتبط بنظام المصالح وليس بأي شيء آخر، وأن قواعد فريق المستقبل، وقوى إسلامية أخرى، بدأت قبل مدة تجاهر بأنها تفضّل «النصرة» على «داعش»، ويعتقدون بوجود فوارق فعلية بين هذين التنظيمين، ولا يخفون «ارتياحاً نفسياً لكل نجاح تحققه النصرة في وجه خصومها وخصوصاً حزب الله».
ووفق هذا المبدأ، فإن القاعدة العريضة من جمهور المستقبل، وشركائه السياسيين، تتصرف على أساس أن هذه المجموعات ليست عدوة لها. وهي لا تبرر سلوك هذه المجموعات فحسب، بل تعتبرها ردّ فعل على سلوك الطرف الآخر، وتعتقد بأنه لا يمكن محاربة هذه المجموعات أو نبذها من دون تحقيق مقابل.
عند هذه النقطة، نعود الى خطاب المشنوق. وهو عندما تحدث عن رفض «أن نكون صحوات»، وجّه رسالة الى الطرف الآخر، أي الى حزب الله ومؤسسة الجيش، مطالباً بضرب المخالفين للقانون في الجهة المقابلة. وخطأ المشنوق، هنا، لا يتصل بغياب المنطق الذي يساوي مخالفين للقوانين بمجموعات إرهابية تستهدف النظام والدولة والعيش العام، بل في كونه يعتقد أن اعتقال نوح زعيتر، وتجار السيارات المسروقة في بريتال، سيهدّئ من روع جمهوره الغاضب. وكان سبب الغضب عدم نجاح الدولة في فرض سلطتها على الآخرين.
وإضافة الى كل ذلك، فإن المشنوق، وهو المعبّر عمّا يدور في خلد كتلة كبيرة من أنصار المستقبل، يتجاهل مواجهة الحقيقة القاسية التي تقول إن نفوذ هذه الجماعات يحتاج، لكي يكبر ويتعاظم، الى تنظيم محيطه اللصيق من كل أصحاب الأفكار الأخرى.
لننظر بدقة. المعارك قائمة الآن، في طرابلس ومحيطها السنّي، كما أن الملاحقات الأمنية تتركز في عكار والضنية والمنية وعرسال وبعض بلدات البقاع الاوسط... فماذا يعني ذلك؟
هل سيخرج من يقول إن الطرف الآخر ينجح في زرع الفتنة هناك، ومع من؟ مع الدولة؟
هل يصدق هؤلاء أن إعلان إمارة على طريقة «داعش» أو النصرة» سيتم في جونية أو الضاحية الجنوبية أو في عالية؟
هل يهرب هؤلاء، مجدداً، من الإقرار بأنهم الخصم الاول والأكيد لهذه المجموعات، وأن هدفها إطاحتهم وإرغام جمهورهم على الالتحاق بإماراتها أو الفرار؟
ما نسمعه خلال اليومين الماضيين، من مواقف صادرة عن قيادات أساسية في فريق المستقبل والقوى النافذة في بيئته السياسية والطائفية، يدل على أنهم لا يزالون عند موقفهم. يرفضون الإقرار بمسؤوليتهم، ويرمون بها على الطرف الآخر، وربما ينتظرون الحل من منقذ يهبط من المريخ.
لذلك، يمكن موافقة المشنوق على أنه لا حاجة الى صحوات، ولكن الأكيد أن الأزمة لا تعالجها الصيحات، وأن على هذا الفريق أن يلجأ الى الصحوة التي تجعله يقر بأزمته الذاتية، وأن يلجأ الى علاجات لها خسائرها، لكنها تقي الخسارة الكبرى. أما المكابرة، فلن تقود إلا الى توسع الحريق. صحيح أن النار ستطال الجميع، لكنها لن تعيش إلا متى نجحت في التهام أهل الدار.