تمر هذه الأيام ذكرى ربع قرن على اتفاق الطائف. 25 سنة على ما سُمِّي وثيقة الوفاق الوطني، آخر أساطير هذا المكان العجيب وآخر أوهام ناسنا الغرباء وأكاذيبهم.في طليعة معالم الأسطورة والوهم والكذبة، مقولة ترسخت طيلة الأعوام الماضية على طريقة غسل الدماغ، أن كل اللبنانيين أجمعوا على تلك الورقة. وأن وحده ميشال عون رفضها فسحقته. العودة إلى الوقائع والحقائق، تظهر العكس تماماً. كل اللبنانيين كانوا ضدها. وحده الفريق السعودي ــ اللبناني كان مستشرساً لإقرارها.

منذ صرخ سعود الفيصل في وجه نواب الـ 72، مملياً معادلته الشهيرة: Take it or break it!
فيما اللبنانيون كانوا في طواف آخر. مسيحياً، كان عون مقاتلاً في وجه الطائف. أمين الجميل أعلن الموقف نفسه. سليمان فرنجيه الجد كان ضد فلسفة الطائف منذ جنيف ولوزان. سمير جعجع كان الأكثر دهاء في رفضه. بعد أسابيع على إقرار الوثيقة كلّف المفكر الكبير أنطوان نجم وضع مشروع الفدرالية. وبعد شهرين أعلن رفضه له بصيغة الاستنكار في 26 كانون الأول 1989: وهل تُسأل القوات عن الطائف؟! وحتى بعد ستة أشهر، وقف جعجع في شباط 1990 ليعلن أنه لا يعترف إلا بحكومة ميشال عون حكومة شرعية!
شيعياً، كان موقف نبيه بري واضحاً في العلن والإعلام: أعطونا مداورة الرئاسات يصبح إصلاح النظام واقعاً. المفتي قبلان صارح ناسه: قبلنا بالطائف لأن البديل كان التقسيم. حزب الله لم يكن معنياً بالمسألة، ولا بالنظام اللبناني برمّته ولا بالوطن. كان يومها بقيادة الحليف الحالي لـ 14 آذار، صبحي الطفيلي. حتى تبدلت قيادته ونظرته إلى لبنان. فحين التزم نهائيته وحدوده وثوابته وميثاقه ... صار السياديون ضده!
وليد جنبلاط، من جهته، رفع ورقة مكتوبة. عشر ملاحظات تنسف الطائف من جذوره. وتعلن مؤشراً واضحاً: حين تقبلون بانتخاب الرئيس من الشعب، تكونون صادقين في الإصلاح! القوى الإسلامية أصدرت بياناً متطرفاً: إنه تأبيد للنظام الطائفي ونحن نرفضه... كل ذلك كان قبل ربع قرن.
كيف ومتى صار الطائف إذن صالحاً للتنفيذ و«الإجماع»؟ كان ذلك بعد أشهر طويلة. ففي صباح 2 آب 1990 اجتاح صدام حسين دولة آل الصباح. فهرع هؤلاء إلى دولة جيرانهم آل سعود. فللأوائل دين على هؤلاء، منذ معركة المليداء وهرب عبد الرحمن بن فيصل آل سعود لاجئاً لدى بيت الصباح سنة 1891. مئة عام ناقصة اشهراً قليلة، استحق بعدها دين رد الجميل. أخذ آل سعود أمراء الكويت المخلوعين إلى واشنطن. هناك اشتروا لهم، عبر إحدى شركات اللوبي، حرب تحرير لمستنقع نفطهم. صار المشهد الشرق أوسطي كالتالي: «نورمان العاصف»، أو الجنرال شوارزكوف، متلهف لتطبيق أطروحته حول حرب أميركية في الصحراء، بتكليف من بوش الأب. الأخير يبحث عن غطاء عربي، ولو شفّاف، لصفقته النفطية التسليحية. حافظ الأسد يتطلع بقلق إلى ما بعد انهيار حليفه السوفياتي. الخليجيون مضطرون لسند عربي مناوئ لصدام... فركب البازل: واشنطن تضرب. دمشق تغطي. الرياض تدفع وتقبض في شكل متزامن. أدرك الأسد ذهبية اللحظة. فوضع على الهامش ملاحظة بسيطة: مطلوب لبنان كدفعة مسبقة، عربون التزام. وهكذا صار. يومها، ويومها فقط ولد الطائف. من جنازير الاحتلال المثلث ولد. جنازير صدام في الكويت، وجنازير بوش في مشروع تقسيم العراق، وجنازير الأسد في لبنان المحتل. وفي مقابل ذلك المثلث، قام الكونسورسيوم الثلاثي للطائف اللبناني، بين واشنطن والرياض ودمشق، فصارت 13 تشرين الأول، وصار الطائف أسطورة وإجماعاً.
ولأنه كذلك، ولد الطائف معطوباً جينياً، وعن قصد، بعطبين اثنين: ميثاقي ودستوري. عطبه الميثاقي أنه يختزل كل سلطاته بشخص واحد. برئيس حكومة. به وحده تكون السلطة الإجرائية. ومن دونه لا تكون. كل عملها من وضع قلم موظف لديه. ولا عمل لها إطلاقاً إن لم يوقع بقلمه على نتاجها. هو يقيمها وحده. وهو يسقطها بمفرده... قبل أن يسعى البعض إلى إضافة سلطة جديدة لرئيس الحكومة: أن يقدر حتى على تعطيل السلطة التشريعية إذا أراد وغاب!
أما العطب الدستوري، ففجوات في النص، غير قابلة لأي ردم، ومفتوحة على كل تعطيل وشلل... حتى يأتي دور الوصي. به تحل الأزمات. به تفسر الإشكاليات. به يستقوي مستضعفو النص، فيقتطعوا بعضلات الخارج ما غبنهم إياه دستور الوطن. وبه يسير النظام، فتصير الوصاية ضرورية. هذا ما أسرَه مسؤولو البنتاغون لسفيرنا سيمون كرم مطلع التسعينات: تبحث في إعادة تمركز الجيش السوري وفق الطائف؟‍! إن فلسفة الطائف تقضي ببقاء السوري لا انسحابه.
بعد سقوط الوصاية تأكد الأمر. لم ينجز أمر واحد في طائف ما بعد السوري، إلا بوصاية دولية. حكومة ميقاتي الأولى وصيها لارسن. حكومة السنيورة الأولى ولَدها تحالف رباعي دولي. حكومة السنيورة الثانية ولدت في الدوحة. حكومة الحريري اليتيمة جاءت من الـ س/س. حكومة ميقاتي الثانية نبتت من نزهة حمد بن جاسم مع بشار الأسد في حلب. وحكومة تمام سلام كانت هبة لقاء ظريف مع كيري على هامش النووي. ما خلا ذلك، أزمات ومآزق، باسم وثيقة الوفاق الوطني.
ماذا يعني هذا الكلام؟ هل المطلوب نسف الدستور كلياً؟ وأي أفق انقلابي أو انتحاري بعده؟