أتم الجيش انتشاره ليفصل بين عرسال وجرودها المحتلة. يوم أمس، وصلت وحداته إلى موقعه في قلعة الحصن، لينهي بذلك، بحسب مصادر عسكرية، المرحلة الأكبر من عملية انتشار لا تزال بحاجة إلى نحو 48 ساعة، قبل التمكن من القول إنها محكمة. لن تؤدي خطوة المؤسسة العسكرية هذه إلى الفصل تماماً بين البلدة والجرود المحتلة من قبل المسلحين.
فلا قوة قادرة على إقفال كافة الطرق في تلك المنطقة الشاسعة والوعرة. لكن خاطفي جنود الجيش والعسكريين سيفقدون حرية الحركة بين مناطق انتشاره في الجرود، وبين البلدة التي يعتمدون عليها في التسليح والغذاء والطبابة. وبدل أن تكون الطرق التي تصل عرسال بالجرود كلها خاضعة لسيطرة مسلحي داعش والنصرة، باتت هذه الطرق في مرمى نيران الجيش وتحت سيطرة مواقعه القديمة والمستحدثة. تضيف مصادر عسكرية أن هذه الخطوة، ستؤدي بعد استكمالها إلى الضغط على خاطفي الجنود والدركيين، متوقعة أن يعمد هؤلاء إلى مهاجمة نقاط تمركز الجيش. وتلفت إلى أن انتشار القوى العسكرية في المنطقة يتيح لها التعامل مع أي هجمات مستقبلية من قبل الإرهابيين.
هذا الانتشار سبق أن حظي بغطاء من حكومة الرئيس تمام سلام، وتحديداً في اجتماعها يوم الخميس الماضي. وكان ينظّر له بعض الوزراء، كوزير الداخلية نهاد المشنوق خاصة. لكن خطة الانتشار هذه سبق أن قررتها قيادة الجيش قبل اجتماع مجلس الوزراء، معتبرة أنها ضرورية لمنع المسلحين من التعامل مع عرسال وجردها كمنطقة عمليات واحدة، وللحؤول دون استمرار تعدياتهم على أهالي عرسال، ولقطع شريان إمدادهم الرئيسي.
هذا العمل الميداني ليس مقدمة لمعركة هجومية يشنها الجيش على المسلحين الذين يحتلون جرود عرسال، بحسب مصادر سياسية رسمية. فدون خوض المعركة قرار من السلطة السياسية، لا يبدو أنه سيصدر لأسباب عديدة، أبرزها «عدم رغبة السعودية في إقفال جبهة عرسال ــ القلمون».

السعوديون لم ييأسوا من تحقيق إنجاز في ريف دمشق، وعرسال بوابة رئيسية لهذا الريف

فإقفال هذه الجبهة، بحسب مرجع في 8 آذار، «سينعكس إيجاباً على عمل الجيش السوري وحلفائه في كافة أنحاء ريف دمشق، وهو ما ستمنعه السعودية وباقي الدول الداعمة للمعارضة السورية». تضيف مصادر أخرى، متابعة عن كثب لعملية تسليح الجيش، قائلة: «ثمة قرار سعودي بوقف العمل بهبة الثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش، بسبب الشغور الرئاسي؛ وثمة قرار أميركي يحول دون تنفيذ هذه الهبة، لأسباب عدة، بينها خلافات مع السعودية حول نيّة الرياض توقيع عقد تسليحي مع باريس بقيمة 25 مليار دولار ترغب واشنطن في أن يكون من نصيبها». لكن المصادر ترى سبباً آخر لوقف صفقة السلاح للبنان: «ممنوع على الجيش الحصول على ما يتيح له هزيمة الإرهابيين». تضيف المصادر: «حتى هبة المليار دولار تحتاج إلى أشهر ــ وربما إلى عام أو أكثر ــ لتسييلها والحصول على كل الأسلحة المطلوبة بموجبها».
تعود مصادر أخرى إلى واقع المؤسسة العسكرية، لتجزم بأن الأزمة أعمق مما يظن أحد. يسأل مسؤول أمني: «ما الذي فعلته السلطة للحصول على ذخائر للجيش؟ هل تعلم الحكومة أن عدد الصواريخ من نوع «هيل فاير» (تُطلق من الطائرات) التي كانت في حوزة الجيش مع نهاية معركة عرسال يقل عن 10 صواريخ؟ اليوم ارتفع العدد قليلاً بعد الشحنة الأخيرة من الذخائر التي أرسلها الأميركيون للجيش. لكنه يبقى محدوداً، ولا يتيح خوض معركة كبرى ولو لأيام معدودة، إذا احتاجت القوات البرية لدعم جوي». وتشير مصادر عسكرية إلى أن «الأميركيين يرسلون هذه الصواريخ بالقطّارة، لأسباب خاصة بهم، منها الأسعار المرتفعة لهذه الصواريخ». يضيف ضباط آخرون أن حقيقة الأزمة تكمن في «أن الدولة اللبنانية لم تدفع مبالغ جدية لتسليح الجيش منذ ثمانينيات القرن الماضي، واكتفت بالاعتماد على الهبات». والهبات، برأي هؤلاء الضباط، «لا تملأ مخازن ولا تكفي لخوض معارك جدية». ويلفت مسؤول عسكري بارز إلى أن جيشاً كجيش العدو الإسرائيلي، رغم ميزانيته الهائلة، والدعم الأميركي الكبير له، عانى من نقص في الذخيرة خلال حرب تموز 2006. فما الذي تتوقعونه من الجيش اللبناني الذي لا تخصص الدولة لتسليحه إلا فتات الموازنة العامة؟». يجيب مرجع سياسي في 8 آذار، مؤكداً أن مشكلة الذخيرة تهون إذا ما توافر القرار السياسي بخوض معركة. فالعقدة ليست لوجستية، بل هي تكمن في القرار السعودي، الذي تلتزمه قوى 14 آذار: عام 2011، صدر القرار من الرياض بتحويل عرسال إلى منصة وممر للسلاح والمسلحين إلى ريف دمشق. ولم يحن أوان إقفالها بعد. وتتذرّع هذه القوى حالياً بـ«عدم قدرة الجيش على خوض معركة في الجرود الشاسعة». يقول مصدر قريب من الرئيس سعد الحريري إن المطلوب حالياً هو «فصل عرسال عن جرودها، ومنع المسلحين من العودة لاحتلال البلدة. وعدا عن ذلك، فالمعركة أكبر من طاقة الجيش».
يرد ضباط حاليون وسابقون بالقول إن معركة في الجرود، للقضاء على بؤرة «جبهة النصرة» و«داعش» لن تكون ناجحة إلا بتنسيق بين الجيشين السوري واللبناني. «هذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها. التداخل بين الأراضي، والامتداد الطبيعي لساحة المعركة ولمخابئ المسلحين، واستغلالهم الدائم لغياب التنسيق بين الجيشين، لن يسمح بالقضاء عليهم». يضيف العسكريون أن القوة النارية للجيش السوري كبيرة جداً، وبإمكانه دعم الجيش اللبناني جواً، وخاصة بواسطة طائرات سوخوي التي استخدمها أخيراً في أكبر من موقع. ويلفت هؤلاء إلى أن «حكومتنا تختبئ خلف إصبعها. فالكثير من دول العام عادت للتنسيق مع الحكومة السورية، سراً وعلانية، وبينها دول في أوروبا الغربية، وأخرى عربية، كمصر مثلاً. والمطلوب ليس تنسيقاً سياسياً، بل أمني وعسكري مع دمشق». وزير في 14 آذار يسارع إلى الرد بحزم: «نحن نرفض تلقي اتصالات من الائتلاف السوري المعارض، فكيف تطلبون منا التنسيق مع النظام؟». يعلّق عسكريون بالحديث عن عدم جواز «التذرع بالنأي بالنفس. فالنأي بالنفس يعني الامتناع عن التدخل في المعركة داخل سوريا، لا النأي بالنفس عن احتلال إرهابيين لأراضٍ لبنانية وخطفهم جنوداً ثم ذبحهم، وإطلاق صواريخ على منازل المدنيين اللبنانيين». وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أن الجيش السوري سبق أن طلب من الجيش اللبناني ــ قبل معركة عرسال ــ عقد اجتماع تنسيقي بموجب الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، على أن يضم ممثلين عن الجيشين والأجهزة الأمنية في الدولتين (الأمن العام، الأمن الداخلي، الجمارك...) لبحث شؤون الحدود المشتركة. وبعدما أحالت قيادة الجيش اللبناني الطلب على السلطة السياسية، رد رئيس الحكومة تمام سلام مباشرة برفض هذا الطلب، ومن دون أي نقاش. ويعلّق مسؤول معني بمتابعة ما يدور في عرسال على ذلك بالقول إن الحكومة تدفن رأسها بالرمال. فهي تنسق مع الدولة السورية في ملفات شتى، آخرها على سبيل المثال تنسيق الأمن العام اللبناني مع الأمن العام السوري لتسوية أوضاع النازحين الذين غادروا من عرسال وعادوا إلى بلادهم. وفي المستقبل القريب، إذا احتاجت أي مفاوضات مع خاطفي الجنود والدركيين لنقل مطالب إلى الحكومة السورية، سيزور المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم دمشق سعياً إلى عقد اتفاق يضمن إطلاق سراح المخطوفين. وسيزور إبراهيم دمشق بصفته ممثل الحكومة اللبنانية في المفاوضات، لا بصفته الشخصية بالتأكيد.
يعود سياسي حليف لدمشق، إلى ما قبل ضرورة التنسيق بين «الجيشين الشقيقين». يقول متحدياً: «إذا كانت السلطة تريد فعلاً التخلص من الإرهابيين الذين يحتلون جرود عرسال، وتريد فعلاً إنقاذ البلد، وكانت جادة في جعل الجيش يخوض معركة، فلماذا لا تطلب من حلفائها الأميركيين شن غارات على مواقع المسلحين في الجرود؟». يسأل هذا السؤال من باب النكاية، قبل أن يعود إلى تكرار ما يراه «حقيقة مطلقة»: «السعودية تريد جرود عرسال جبهة مفتوحة في وجه حزب الله والجيش السوري. ولا همّ إذا ما لحقت بلبنان أضرار جانبية. لا يريد السعوديون لـ«داعش» أن تبتلع لبنان وحلفاءهم فيه، لكنهم لا يريدون إراحة الحزب والجيش السوري. ومن لا يصدّق، فليراجع فتوى المفتي السعودي قبل يومين، حين وضع شرطاً لقتال «داعش»، وهو «إذا قاتلت المسلمين»». يختم السياسي اللبناني كلامه بالقول: «السعوديون لم ييأسوا من تحقيق إنجاز ما في ريف دمشق. وعرسال هي بوابة رئيسية لهذا الريف».