وقف بسام الشوا عند تقاطع شارع عزمي في طرابلس. وضع عربته المليئة بالعنب أمامه، منتظراً مدخولاً صغيراً جداً يمكّنه من شراء الطعام لأولاده العشرة. هذه العربة تشكل مصدر رزق الرجل «الضعيف» الذي لم تكفه معاناة هروبه من حلب منذ ستة أشهر، ليواجه معاناة جديدة بالسعي وراء لقمة عيشه بعرق جبينه.
يشتري فاكهة بقيمة 250 ألفاً يومياً، ليحصل في نهاية اليوم على ربحٍ لا يتعدّى 15 ألف ليرة. فجأة، حضرت سيارتان لقوى الأمن الداخلي وفرضتا طوقاً على الرجل. ظن الجالسون في المقهى المجاور أن العربة مفخخة، لأن الطريقة التي نزل فيها العناصر أوحت بذلك. الموضوع أبسط من ذلك بكثير. كيف لعربة فاكهة أن تشوّه المنظر العام لوسط مدينة طرابلس الفخم؟ وخصوصاً إذا لم يكن صاحبها مدعوماً. انقضّ العناصر على العنب وسط إهانات واستهزاء بالرجل الذي أجهش بالبكاء. «وليه شو ما بتفهم؟ شكلك حمصي إنت»، عبارات وجهها «بلطجية قوى الأمن» للرجل بينما كانوا مشغولين باختيار عناقيد العنب الأفضل وتوضيبها في الأكياس الموجودة على العربة، وفق ما روى رواد المقهى المجاور. عبارةٌ وحيدة نطق بها الرجل باكياً: «الله يخليك سيدنا، بدي طعمي ولادي». مشهد الرجل غارقاً في دموعه، مترجياً عناصر قوى الأمن الرأفة بلقمة أولاده كفيلٌ بأن يثير لدى أي شخص مشاعر تعاطف إنساني مع أب فقير يحاول كسب رزقه، إلا أن المخالفة التي ارتكبها الرجل لا يمكن التغاضي عنها.

الفقر يملأ طرابلس والناس يبحثون عن أبسط سبيل للعيش
حمل العناصر أكياس العنب، تاركين ما لم يعجبهم من عناقيد، ورحلوا في سياراتهم، ليبقى الرجل جالساً على الرصيف يشكو حاله. جميع الذين شهدوا على الحادثة أقروا بأن ما حصل يدخل في خانة الاستقواء على الفقراء والضعفاء، لذلك جمع بعض الناس مبلغاً من المال للتعويض على الرجل.
رواية قوى الأمن تختلف، إذ يقول المقدم جوزيف مسلم، رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، إنّ القوى الأمنية أقدمت على حجز 25 عربة جوّالة، إضافة الى بائع العنب الذي جرى تداول صورته. الخطوة تأتي نتيجة للشكاوى المتكررة من تجار المدنية، بسبب ما يتعرضون له من ضرر ناتج من المزاحمة غير المشروعة، إضافة إلى «عرقلة حركة المرور في المدينة». وتبيّن بحسب مسلم أن الأشخاص الذين أُوقفوا هم من التابعية السورية، المسجلين لدى الأمم المتحدة، ويستفيدون من المساعدات المالية والتقديمات ومن بينهم بائع العنب. يرفض مسلّم أن تكون قد صودرت نصف الكمية من قبل عناصر الدرك، بل كامل الكمية التي نظّم فيها محضر ضبط وأرسلت إلى دار الأيتام. أخذ العناصر العنب من الفقير ليعطوه لدار الأيتام، تاركين أولاده العشرة ينتظرون عودة أبيهم ليلاً مع طعام العشاء. هكذا إذاً تجسّد «روبن هود» بزي قوى الأمن في طرابلس.
يعلّق الياس خلاط، أحد الناشطين في طرابلس، أن ما حدث مخزٍ فعلاً، قائلاً: «إذا كان تطبيق القانون يحصل على المستوى العام، فهذا أمر إيجابي، لكن لم يجدوا سوى الضعيف كي يطبقوا القانون عليه؟». ويضيف أن «طرابلس تريد هيبة الدولة، شرط أن يحصل ذلك بعدل ومساواة»، مبدياً تخوّفه من حصول مثل هذه الممارسات من دون أن يعرف أحد بها. وسأل خلاط: «لماذا لا تقوم القوى الأمنية بفرض سلطتها عبر قمع مخالفات البسطات في منطقة أبو علي التي تحتل الأرصفة والأملاك العامة؟ ولماذا لا تقمع الدولة المخالفات التي يرتكبها أصحاب الباصات بحق الأملاك العامة أيضاً؟».
المخالفات منتشرة في طرابلس وكل لبنان، وتأثيرها بالتأكيد يتجاوز ما يمكن أن تحدثه عربة فاكهة من إخلال في القانون العام. يرى رئيس نقابة البسطات في طرابلس علي السلو أنّه «في ظل الوضع الأمني والاقتصادي الحالي لا ينبغي الالتفات إلى هذه الأمور. الفقر يملأ طرابلس، والناس يبحثون عن أبسط سبيل للعيش بكرامتهم. ماذا سيؤثر عليهم إذا تركوه يبيع؟ الناس يموتون من الفقر في طرابلس، وهم يريدون تطبيق القانون». ممارسات بعض عناصر قوى الأمن في المناطق يعرفها الجميع، وتشكّل حديثاً يومياً يتداوله المواطنون. يروي علي ما يحصل مع بعض أصحاب البسطات السوريين، قائلاً: «يفرض أحد اللبنانيين إيجاراً يومياً على هؤلاء تعسفاً، وينسق مع أحد عناصر الدرك من أجل التغاضي عن الأمر مقابل حصة معينة». كذلك فقد يأخذ الموضوع منحىً مغايراً، كأن «يختار عناصر دورية منفردة إحدى البسطات ويصادروا بضاعتها، تاركين البسطات الأخرى المجاورة. البضاعة التي تُصادر يتقاسمها العناصر أنفسهم».
حادثة العنب فتحت نقاشاً بين الجميع حول «إكرامية» قوى الأمن، كما هو متداول بين الأشخاص، التي لا تقتصر فقط على البسطات، بل تتعداها لتشمل مخالفات البناء التي تشكّل مربحاً جيداً بالنسبة إليهم. يقول علي: «هناك مقاهٍ ومحال موجودة على أراضي البلدية وأراضي الغير لا أحد يقترب منها، لماذا؟ لأنهم «مزبطينا». بسطة هذا الرجل مخالفة، والمقاهي الموجودة في ساحة التل ومقهى الروكسي غير مخالفة؟». كذلك السيارات التي تحمل نمراً بيضاء، وتعمل كسيارات أجرة منتشرة في أرجاء المدينة من دون أي رادع.
يتوسّع الناس برواية مخالفات بعض العناصر، ليعلنوا أنّ «كل بناء عشوائي مخالف بنحو فاضح يكون محمياً من عناصر قوى الأمن لقاء مقابل معيّن». كذلك خرجوا من نطاق طرابلس ليرووا ما كانوا يشاهدونه في بيروت من استغلال لأصحاب البسطات لقاء عدم مصادرة بضاعتهم.
لم ينف مسلم وجود «أخطاء»، فعنصر قوى الأمن «ابن المجتمع اللبناني»، ولا ينكر أيضاً منطق «الواسطة» التي تعرقل عمل قوى الأمن أحياناً. إلا أن قوى الأمن ـ بحسب مسلم ـ هي «المؤسسة الوحيدة التي يستطيع المواطن أن يتقدم بشكوى بحق عناصرها، وهناك شهرياً عقوبات مسلكية تتخذ بحق عناصر الدرك».




إنجاز آخر لقوى الأمن: الادعاء على غسان ريفي

اتخذت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي صفة الادعاء أمام القضاء المختص ضد غسان ريفي كاتب مقال «عندما يسطو الدرك على أموال الناس» الذي نشر في جريدة «السفير» أمس، بجرم التشهير والافتراء. ورأت المديرية أن المقال يحتوي على كثير من المغالطات والتجني والبعد عن الواقع، موضحةً أنها منذ فترة تقوم بحملة على الباعة المتجولين من دون ترخيص في مدينة طرابلس وغيرها من المناطق اللبنانية، لما يسببونه من عبء اقتصادي وضرر ومزاحمة غير مشروعة للتجار المرخص لهم. وبررت قوى الأمن ما قام به عناصر دورية فصيلة التل بمؤازرة دورية من مفرزة طوارئ طرابلس، بأن الشخص المخالف هو من التابعية السورية، ودخل الأراضي اللبنانية بصفة «نازح» واسمه مسجل على لوائح الأمم المتحدة ويستفيد من المساعدات والتقديمات التي تقدم للنازحين، وبالتالي لا يحق له العمل على الإطلاق على الأراضي اللبنانية. كذلك أعلنت أنّ هذا الفعل يدخل في صميم عملها في مجال الضابطة الإدارية، وقد ضُبطت هذه المخالفة وغيرها من المخالفات بموجب محاضر ضبط رسمية. أخيراً دعت المديرية جميع وسائل الإعلام إلى توخي الدقة لدى نقل أية معلومة تتعلق بها أو بعمل عناصرها، واستقاء المعلومات من شعبة العلاقات العامة حفاظاً على صدقية الوسيلة الإعلامية من جهة وصوناً لكرامة مؤسسة قوى الأمن الداخلي من جهة ثانية.