عرض الدكتور كمال الصليبي في مختلف أعماله حول لبنان، التحولات التي طرأت على خريطة لبنان المذهبية منذ العصور الإسلامية الأولى حتى القرن العشرين، وصراع الافكار بدءاً من «لبنان الكبير» على وجه الخصوص، وكان له موقف من الحرب الأهلية. ختم كتابه «بيت بمنازل كثيرة» بالقول إن التاريخ ليس مجرّد رواية لأحداث الماضي، بل هو أيضاً بحث عن الفهم والإدراك، وأن المجتمعات المنقسمة على نفسها لا تتحمّل ترف تزييف ماضيها. هنا محاولة لتقديم هذا العلم اللبناني إلى القرّاء.
1ــ الهويات الجزئية في لبنان بدءاً من العصر الإسلامي الأول

كيف تشكّلت الهويات الجزئية في لبنان بدءاً من العصر الإسلامي الأول أو عصر الدولة الأموية. هذا ما أوضحه الدكتور كمال الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان»، الصادر في 1979. عالج في القسم الأول من كتابه حضور الموارنة كأحد «منازل» البيت الذي هو لبنان. وأهم ما فيه، تشكّل الموارنة كطائفة مسيحية وصراعها مع القسطنطينية، وهجرة بطريركها الأول إلى لبنان عام 684، بعد ذبح رهبان دير مارون في حماه على يد الجيش البيزنطي. ختم الصليبي موضوع الهجرة هذا بعرض حول ترك الموارنة نهائياً حوض العاصي إلى لبنان، بعد عودة البيزنطيين واحتلالهم جزءاً من شمال سوريا، بدءاً من عام 976، أي بعد أكثر من 300 سنة من الحكم الإسلامي. بين هذين التاريخين، هناك اتفاق الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان مع ملك الروم على سحب الجراجمة أو المردة من سوريا، وهناك مواجهة بعض موارنة جبل لبنان للدولة العباسية التي دفعت الخلفاء إلى توطين مسلمين في بعض أماكن التماس بين السكن المسيحي والسكن الإسلامي (الصليبي، 1979: 60). وحين يتطرّق المؤرخون إلى هذا الموضوع، يذكرون على الدوام تدخّل الإمام الأوزاعي نقداً للدولة العباسية على قاعدة «لا تزر وازرة وزر أخرى». وقد شكّك المؤرّخ في أعماله اللاحقة في كون المعنيين بالصدام من الموارنة، اخذاً بالاعتبار دور بيزنطية في افتعال النزاع (الصليبي، 1989: 180). وقد تحوّلت مدن الساحل كبيروت وطرابلس وصيدا وصور وبعض الأرياف المحيطة بها في وقت قصير إلى مناطق يسكنها مسلمون جاء بهم الفتح الإسلامي لحماية الثغور من هجمات الروم (الصليبي، 1979: 48).

لم تطرأ تغييرات جوهرية على خريطة لبنان المذهبية حتى آخر القرن الثامن عشر



لم يكن الدكتور الصليبي في كتابه هذا قد استكمل بحثه حول أصول الموارنة، ولم يكن قد دحض أسطورة الخلط بينهم وبين المردة (المصدر نفسه: 43). وهي الأسطورة التي ابتدعها البطريرك الدويهي، واعتمدها الكل بعده من دون تمحيص. اقتضى استكمال البحث سنوات إضافية، تضمّنت عملاً على الأرض، لإثبات أصول الموارنة اليمنية، وأنهم مثّلوا إحدى آخر الهجرات قبل الإسلام من جنوب الجزيرة العربية إلى سوريا في عهد الإمبراطور موريس، أي بعد عام 582 (الصليبي، 1989: 123). قدم الدكتور الصليبي في كتابه «بيت بمنازل كثيرة» الصادر في 1989، القرائن التي تثبت خطل أطروحة الدويهي، وأثبت أنهم من «أقحاح العرب لغة وأصلاً...» (المصدر نفسه: 69؛ داغر، 2010).
يأتي بعد ذلك الشيعة والدروز في تأريخ الدكتور الصليبي لـ«منازل» لبنان. ويبدأ تاريخ جديد للبنان في العصر العباسي، حيث أدى تراجع الحكم إلى نشوء معارضات اتخذت طابع مذاهب وفرق دينية، كان منها القرامطة والشيعة الإسماعيلية والشيعة الإثني عشرية والعلويون، وكانت أهمها الدولة الفاطمية الشيعية في مصر. عكست تلك المعارضات الحاجة إلى «التسويغ الإسلامي للمعارضة، لكن على أساس مفهوم خاص للإسلام يختلف عن الذي تقول به الدولة» (الصليبي، 1989: 62). كان لبنان بمجمله خلال الفترة التي سبقت سيطرة الدولة الفاطمية على مصر وبلاد الشام بدءاً من 977، تاريخ أخذ الفاطميين لدمشق، في ما خلا ــ جبل لبنان الشمالي الماروني المكوّن من بشري ــ اهدن والبترون وجبيل، شيعياً بمدنه الساحلية كطرابلس وبيروت وصيدا وصور، وسلسلة جباله الغربية، وخصوصاً كسروان والشوف وجبل الضنية وجبل عكار، إضافة إلى جبل عامل ووادي التيم في الجنوب وبلاد بعلبك في الداخل (الصليبي، 1979: 62). أعطت الدولة الفاطمية مجالاً لبث الدعوة الدينية، وكان من نتائج ذلك، نشوء المذهب الدرزي، الذي انتمى إليه سكان الغرب (عاليه والشحار) و«الأشواف» أي الشوف ووادي التيم، أي مناطق دروز لبنان الحالية. وقد سجّل المؤرخ اختفاء القرامطة من لبنان بعد نشوء المذهب الدرزي.


حقبة الصليبيين

الحقبة التالية في تأريخ الدكتور الصليبي للبنان، هي حقبة الصليبيين كعدوان خارجي استيطاني. وقد كان لكيفية التعامل معه أكبر الأثر في تغيير الهوية المذهبية للسكان على أرض لبنان. فصلت سنوات قليلة هجرة الموارنة النهائية من سوريا هرباً من البيزنطيين، عن وصول الصليبيين في 1099 الذين استقبلهم هؤلاء في عكار، باعتبار أنهم أعداء أعدائهم (المصدر نفسه: 90). هزم الصليبيون بنو عمار وأزالوا إمارتهم الشيعية من طرابلس. واختار أهل صيدا المسلمون أن يتركوا المدينة إلى سوريا ومصر (كرباج وفارغ، 1997: 87). وحكم الصليبيون الجزء الغربي من بلاد الشام وجزءاً من المناطق الداخلية، إلى أن أخرجهم صلاح الدين من الداخل السوري واستعاد القدس عام 1187 بعد معركة حطين، وذلك بعد 88 سنة من الغزو الصليبي. أعطى الصليبيون بلاد جبيل لعائلة أمبرياتشي الجنوية الإيطالية، التي حكمتها طيلة 200 عام.
كان السلاجقة الذين يمثلون الخلافة في بغداد، والذين كان مركز السلطنة عندهم في أصفهان، أول المندفعين إلى متابعة الصراع ضد الصليبيين. هزم نور الدين زنكي، نائب السلطان السلجوقي في سوريا، هؤلاء في أكثر من موقعة. وكان أبوه قد أزال إمارة الرها، إحدى إمارات الصليبيين الأربع في الشرق. أما هو، فتولى المواجهة ضد الفرنجة من دمشق، جاعلاً منها مركز الجهاد، وجامعاً حول هذا المركز «ولاة الأطراف» (الصليبي، 1979: 108). تابع الأيوبيون بعد السلاجقة الصراع ضد الصليبيين. وأدى ضعف الفاطميين في مواجهة الصليبيين إلى حلول الأيوبيين محلهم في حكم مصر، ونقلهم إياها من المذهب الشيعي إلى المذهب السني (المصدر نفسه: 113). نقل صلاح الدين قاعدة ملكه إلى دمشق، وتابع الصراع من هناك ضد الفرنجة.
كان لدروز الغرب ووادي التيم تاريخ على حدة مع السلاجقة والأيوبيين. كان أمراء الغرب حلفاءهما في التصدي للصليبيين في سنيوريّتي بيروت وصيدا. وحافظوا على مذهبهم. بل كان المتصارعون على الحكم في دمشق من العائلة الأيوبية، ومنهم ابن صلاح الدين بالذات، يستنجدون بأمراء الغرب الدروز في صراعاتهم هذه (المصدر نفسه: 116). وولى أتابكة دمشق السلجوقيون آل شهاب السنّة على إمارة وادي التيم (المصدر نفسه: 115).
كانت الحقبة الصليبية التي دامت حتى 1305، الفترة التي أكّد فيها الموارنة التحاقهم بالكنيسة الكاثوليكية في روما. ذهب أساقفتهم عام 1180 إلى القدس للقاء الموفد البابوي وتأكيد خضوعهم لروما. لكن الموارنة لم يكونوا موحّدين في شأن علاقتهم مع الصليبيين. دعا البابا البطريرك العمشيتي إلى حضور المجمع اللاتراني في 1215 لتوفير شرعية إضافية له في الصراع القائم. اختلف الأمر بين سكان المناطق القريبة من الساحل، الذين تعاونوا مع الصليبيين، وموارنة المناطق العليا من السفح الغربي لجبل لبنان الذين رفضوا الالتحاق بهم (المصدر نفسه: 97). ووجّه صليبيو طرابلس حملة عسكرية ضد هؤلاء قتلت الكثيرين منهم. وثار موارنة بلاد جبيل ضد حكم آل أمبرياتشي. وخلال العقود الأخيرة من العهد الصليبي كان ثمة بطريركان للموارنة، انتخِب أحدهما بضغط من صليبيي طرابلس. وبقي الانقسام بين الموارنة قائماً في ما يخص العلاقة مع الصليبيين إلى حين انتهاء الحكم الصليبي في الشرق (المصدر نفسه: 100).

أسّست حقبة بشير شهاب لرفض لدى الفلاحين الموارنة لسلطة المقاطعجية



حقبة المماليك

استكمل المماليك عمل السلاجقة والأيوبيين في مواجهة الصليبيين، وحكموا مصر وبلاد الشام من القاهرة. ومع بدء عهدهم في 1250، وخصوصاً بعد سقوط بغداد بأيدي المغول في 1258، أصبحت القاهرة عاصمة سلطنة تضم مصر وكامل بلاد الشام، وكذلك مركز خليفة المسلمين. وقد هزم المماليك المغول مرّة أولى عام 1260 في عين جالوت. أدخلت الحقبة المملوكية تغييرات هامة على الخريطة المذهبية للبنان. كان السلطان المملوكي بيبرس، على خلاف سابقيه من السلاجقة والأيوبيين، يشك في ولاء أمراء الغرب الدروز، فسجن البعض منهم في القاهرة، وجرد نائبه في دمشق حملة عسكرية خربت ديارهم في منطقة الغرب (المصدر نفسه: 124). كان الأمر كذلك بالنسبة الى السلطان قلاوون الذي استعاد طرابلس من الصليبيين. عادت المياه إلى مجاريها بين السلطنة وأمراء الغرب في عهد الأشرف خليل، ابن قلاوون، الذي استعاد صور وصيدا وبيروت وجبيل، مستكملاً سيطرة المماليك على بلاد الشام. وقد استعان هذا الأخير بهم في الحملات العسكرية الثلاث التي جردها ضد أهل كسروان الشيعة. كان مأخذه على هؤلاء أنهم لم يتصدّوا للوجود الصليبي، وأنهم كانوا معادين للسلطنة التي كانت تخوض حرباً أخرى في سوريا ضد المغول. وقد أخفقت الحملة الأولى على كسروان في 1291، وكانت الثانية محدودة الأثر. لكن الثالثة التي حصلت عام 1305، بعد خروج الصليبيين نهائياً من الشرق، وكانت أهم معاركها التي حصلت في نابيه ــ المتن، قد أدت إلى تدمير الحضور الشيعي في كسروان (المصدر نفسه: 143).
يذكر الدكتور الصليبي ما جاء على لسان ابن القلاعي، المؤرخ الماروني في الحقبة الأخيرة من العهد المملوكي، من أن الدمار الذي طال كسروان شمل أيضاً كنائس وأديرة للموارنة. وفي مراجع أخرى، أن حملة المماليك أدت إلى تهجير العلويين من أهلها إلى منطقة اللاذقية (كرباج وفارغ، 1997: 34). وقد عوّل المماليك على قبائل تركمانية سنيّة لحفظ الأمن فيها. يشير الدكتور الصليبي إلى مراجع أوضحت أن أهل كسروان شيعة وموارنة عادوا إليها بعد استتباب الأمن (الصليبي، 1979: 144). ويشير في موضع آخر إلى العلاقة الجيدة التي ربطت في وقت لاحق آل عساف التركمان بالموارنة، وجعلتهم يستقدمونهم لملء الفراغ في كسروان (الصليبي، 1970: 25). وقد تلا استعادة السلطان قلاوون لطرابلس تحوّل سكان الضنية وعكار إلى المذهب السنّي (الصليبي، 1965: 19).
لا يمكن التأريخ لتلك الحقبة من دون الأخذ بالاعتبار للانهيار الديموغرافي الكبير للمنطقة. كان عدد سكان بلاد الشام أربعة ملايين عند الفتح الإسلامي، وحافظت المنطقة على العدد ذاته طيلة ثلاثة قرون. أي كان ثمة أربعة ملايين في عام 900 نصفهم مسيحيون (كرباج وفارغ: 33). لكن الحقبة اللاحقة، التي شهدت تراجع الخلافة العباسية التي باتت سلطتها صورية، وعودة البيزنطيين إلى شمال سوريا، ونشوء إمارات السلاجقة والأيوبيين، ومجيء الصليبيين وغزو المغول وتدميرهم لبغداد وحواضر الهلال الخصيب، ونشوء دولة المماليك، كانت حقبة تراجع ديموغرافي كبير. كان عدد سكان بلاد الشام إبان الحملة الصليبية الأولى 2.7 مليون شخص، وتراجع هذا العدد إلى نحو 1.2 مليون قبل موجة الطاعون التي وصلت إلى المنطقة وضربتها عام 1348 (المصدر نفسه: 35). أي هبط عدد السكان بمقدار الثلثين خلال حقبتي الصليبيين والمماليك. وخسرت المنطقة ثلث سكانها بسبب الطاعون. وهبط عدد السكان في مصر من 3 ملايين قبل الطاعون إلى 2 مليون بعده (بولياك، 1938: 201). وأصبح عدد سكان بلاد الشام مليوناً، منهم 150 ألفاً في لبنان (كرباج وفارغ: 36).
وختم الدكتور الصليبي عرضه لتاريخ لبنان خلال العهد المملوكي بإظهار تشدّد السلطنة الديني ضد المسيحيين. كان استمرار هجمات الفرنجة على السواحل، ومنها غزوتهم الدموية للإسكندرية، يزيد الاحتقان ضد المسيحيين. تجلى ذلك في اعتقال بطريركهم الحجولاوي وحرقه في طرابلس. وقد استعاد أسطورة تحسّن علاقة الموارنة بالمماليك البرجية الذين كانوا من الشركس، في عهد السلطان برقوق. وعرّج باقتضاب على ما كان قد فصّله في مكان آخر، من أن الطائفة المارونية كادت أن تختفي من الوجود بفعل «التبشير» اليعقوبي، أي السرياني، الذي استهدفها آنذاك وحصل بتواطؤ من مقدمي بشري (الصليبي، 1968: 70).
لا تظهر الصورة واضحة بالنسبة إلى مدن الساحل في تلك الحقبة باعتبار أن السلطان المملوكي الأشرف خليل كان قد أفرغ السواحل من سكانها ليمنع استخدامها قواعد عسكرية من قبل الغزاة الصليبيين الذين كانوا لا ينفكون يغيرون على الشواطئ (بولياك، 1938: 202). وقد أمكن لأمراء الغرب البحتريين الحفاظ على توارثهم لإقطاعهم، علماً بأن ذلك نقض القاعدة المملوكية التي قامت على إعادة توزيع الأراضي على النخبة العسكرية (الصليبي، 1979: 149). وشهد المذهب الدرزي إحياءً وتنظيماً له على يد العلامة البحتري، عبد الله التنوخي. وقد رصد الدكتور الصليبي ظهور آل أرسلان كأمراء للشويفات، وكفرع من آل بحتر (المصدر نفسه: 156). وهو ما يناقض ما قاله بولياك من أنهم من آل أبو الجيش منافسو آل بحتر في الغرب، نقلاً عن الشدياق (بولياك، 1937: 13). ورصد ظهور فخر الدين عثمان بن معن في الشوف، وبناءه جامع دير القمر، موضحاً أن لا علاقة له بالعائلة التي أنشأت الإمارة المعنية بدءاً من السادس عشر. وحكم آل الحنش السنّة البقاع في آخر العهد المملوكي. وجاء بعدهم آل الحمرا السنّة أيضاً. وهم الذين كانت لهم أملاك في بيروت أعطت في ما بعد شارع الحمرا اسمه. وقد استقدموا من البقاع فلاحين سنّة للإقامة في غرب بيروت (الصليبي، 1979: 159-160) برّر الدكتور الصليبي تركيزه على الموارنة والدروز في عرضه التاريخي، بوجود مدوّنات حققها أعلام منهم، وبغياب هذه المدوّنات لدى الآخرين (المصدر نفسه: 183). ولعل أحد أسباب غيابها عند الشيعة هو إحراق أحمد باشا الجزار كتب جبل عامل (الصليبي، 1989: 187). سمّى الدكتور الصليبي علمين لعبا دوراً مهماً في إدراك أبناء المذهبين الدرزي والماروني لانتماءيهما، هما عبد الله التنوخي عند الدروز، وابن القلاعي عند الموارنة الذي كان الرهبان الفرنسيسكان قد أوفدوه للدراسة في روما.



الإمارة المعنية

في كتابه، «تاريخ لبنان الحديث» الصادر في 1965، استعرض الدكتور الصليبي الأحداث والوقائع؛ بدءاً من الفتح العثماني، أوائل القرن السادس عشر، وصولاً إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب في ستينيات القرن العشرين. شمل السرد وقائع الإمارتين المعنية والشهابية ثم وقائع القائممقاميتين والمتصرفية والانتداب. بدأ لبنان الحديث مع فخر الدين الثاني المعني الكبير، الذي انتهى معتقلاً في اسطنبول ومقتولاً عام 1635. حاولت السلطنة بعده استبدال آل معن بآل علم الدين، الذين استخدموا فترة حكمهم القصيرة لإبادة أمراء آل بحتر في الغرب. لم ينجح الاستبدال، وتسلّم ابن أخ فخر الدين، الأمير ملحم، الحكم، ثم تبعه ابنه الأمير أحمد، الذي توفي عام 1697 بدون عقب. كان القرن السابع عشر قرن عائلة آل معن من فخر الدين الثاني إلى ملحم وأحمد.



الإمارة الشهابية

جرى الاتفاق على أن يخلف الأمير أحمد ابن أخته الأمير حيدر شهاب السنّي. دخل آل علم الدين مجدّداً في الصراع على الحكم، وجيّشوا الزعماء المنتمين إلى الحزب اليمني ضد القيسيين، وصولاً إلى معركة عين دارة الشهيرة عام 1711، التي أدّت لدمار الحزب اليمني، وإبادة آل علم الدين وهجرة المهزومين إلى جبل العرب في سوريا. أعاد الأمير حيدر الشهابي تنظيم الإمارة من خلال تثبيت المشايخ الذين دعموه في إقطاعاتهم، وإضافة عائلات جديدة إلى نخبة «المقاطعجيين». انتهى آنذاك الاستقطاب بين قيسيين ويمنيين، ليحل محله بعد ذلك التاريخ استقطاب جديد في أوساط النخبة، بين يزبكيين وجنبلاطيين.
قدم الباحث الكندي ستيفان وينتر إضافة مهمة لفهم تاريخ لبنان من مطلع السادس عشر إلى آخر الثامن عشر، تناولت دور النخب الشيعية خلاله، وأتاحت استكمال الصورة غير المكتملة التي رسمها الدكتور الصليبي (ويتنر، 2010). توسّعت الإمارة نحو الجنوب خلال عهد الأمير ملحم الشهابي، ابن الأمير حيدر، بعد الحرب التي خاضها ضد نخب جبل عامل الشيعية من آل المنقار وعلي الصغير، للاستحواذ على «التزام الجباية» في تلك المناطق، في ما سمّي آنذاك «حرباً كبرى بين المتاولة والدروز» (المصدر نفسه: 132). وتوسّعت نحو الشمال في عهد خلفه الأمير يوسف، بعد الهزيمة الماحقة التي لحقت بآل حماده، مقاطعجية جبل لبنان الشمالي حتى ذلك التاريخ، في معركة القلمون عام 1771 (المصدر نفسه: 170). خرج آل حماده نهائياً من السفوح الغربية لجبل لبنان بعد تلك المعركة، وتقاسم آخرون بينهم آل الخازن تركتهم كمقاطعجية. جاء توسّع الإمارة نتيجة السياسة التي اعتمدتها السلطنة باستبدال ملتزمي الجباية الصغار بمن هم أكبر منهم. واستمر آل حرفوش كمقاطعجية لمنطقة البقاع، بدعم من الإمارة الشهابية.
لم تطرأ تغييرات جوهرية على خريطة لبنان المذهبية حتى آخر الثامن عشر بفعل أحداث عنيفة أو جسيمة. كان التغيير الأكبر الذي حصل هو هجرة موارنة الشمال التي بدأت أيام فخر الدين الثاني الكبير وبتشجيع منه واستمرت على مدى الإمارتين نحو الجنوب. كان للاميرين فخر الدين الثاني وأحمد الدور الأهم في استقدام الموارنة الذين تولوا تطوير قطاع الحرير. وقد استوطن هؤلاء مختلف المناطق ذات الأغلبية الدرزية، كما في الشوف والغرب، والشيعية كما في جبل عامل والبقاع، والسنية كما في أغلب المدن الساحلية وبعض الداخل. وأشار وينتر في كتابه إلى دعم آل حرفوش بناء دور عبادة مسيحية وإلى تكريم أبناء جبل عامل الشيعة قديسين نصارى كأولياء (المصدر نفسه: 44 و122).
سيبدأ مع الأمير يوسف عهد جديد، عنوانه تكالب ولاة المقاطعات المحاذية للإمارة عليها من أجل اقتطاع مزيد من المداخيل الضريبية، وتأجيجهم الصراعات داخل العائلة الشهابية لهذه الغاية. ويبدو الجزار باشا والي عكا من أصل ألباني، كتجسيد لإرادة الشر التي تعاطى بها الخارج منذ ذلك الوقت مع الوطن الصغير. انتهى الأمير يوسف مقتولاً في سجن عكا، وهو الأمير الشهابي الأول الذي يعتنق المسيحية ويلتحق بالمذهب الماروني. وقد امتلأت حقبة خلفه، بشير الثاني الكبير، التي استطالت نصف قرن، بالأحداث الجسام من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير الخريطة المذهبية للبنان، التي ارتسمت خلال القرنين السابقين. بدأ بشير الثاني عهده بصراع مميت مع عمه الأمير يوسف وأولاد هذا الأخير على السلطة. كانت الإمارة تحصّل الضرائب تلو الضرائب من الناس لتهدئة الطاغية الجزار، ودفع شره عنها. وبقيت صورة هذا الأخير كنوع من عزرائيل مسيطرة على لبنان حتى موته في 1804 (الصليبي، 1965: 62). شهدت حقبة بشير شهاب أيضاً غزوة الوهابية الآتية من الجزيرة العربية لمناطق الهلال الخصيب، والتي كان من آثارها هرب بعض مسيحيي ودروز سوريا وتوطّنهم في لبنان بتشجيع منه (المصدر نفسه: 65).
وشهد عهد بشير شهاب استفحال الصراع بينه وبين المقاطعجية الدروز، وعمله على تحجيم دور هؤلاء، واستخدامه رعاياه الموارنة في صراعاته. كان لمقتل بشير جنبلاط بسعي منه أثره الدائم لجهة العداوة التي نشأت بينه وبين الزعماء الدروز. وقد تحالف بشير شهاب مع إبراهيم باشا في خروجه على السلطنة واحتلاله بلاد الشام طيلة تسع سنوات. وإذا كانت تجربة محمد علي باشا محط إعجاب التائقين منذ ذلك التاريخ إلى بناء دولة عربية حديثة، ودليلاً على شراسة الغرب الاستعماري في تصديه لإقامة دولة عربية قوية، فإن مآلها في المشرق العربي كان محزناً ومحبطاً. انتهت إلى هزيمة ماحقة لإبراهيم باشا بسعي وتدخّل مباشر من القوى الاستعمارية التي اجتمعت كما لم يسبق لها ذلك لوأدها. كانت المواجهة مع إبراهيم باشا أول عهد تلك القوى في إرسال سفنها لإنزال الجيوش على شاطئ جونيه. وقد احتلت هذه الأخيرة المدن الساحلية وهزمت إبراهيم باشا في معركة بحر صاف (المصدر نفسه: 91-92). لم تؤد تجربة محمد علي باشا إلى بناء دولة عربية تضم مصر وبلاد الشام، اللتين جمعتهما وحدة سياسية ومجتمعية منذ بدء الفتح الإسلامي. كانت النتيجة انهياراً للإمارة، ومنطلق مرحلة من التشظي الطائفي والمذهبي في لبنان، ومن استتباع الخارج للنخب المحلية استمرّت كقاعدة حتى اليوم.
وقد توحّد الموارنة والدروز للثورة على ابراهيم باشا بسبب الضرائب والتجنيد الإجباري الذي فرضه عليهما. وبمجرّد خروجه اصطدموا ببعضهم البعض على قاعدة أحقاد وخلافات تراكمت طوال حقبة بشير شهاب. كان إبراهيم باشا قد نفى زعماء الدروز إلى مصر. وحين عاد هؤلاء طالبوا باستعادة ملكياتهم، ودخلوا في صراعات لا تنتهي مع الموارنة حول ملكية الأرض. أسّست حقبة بشير شهاب لرفض متعاظم لدى الفلاحين الموارنة لسلطة مقاطعجييهم الدروز، ولإدراك جديد لأنفسهم بصفتهم المذهبية ساهمت فيه أجهزة الكنيسة المارونية (المصدر نفسه: 99). وسوف يكون نفي بشير الثاني فاتحة مرحلة من الفوضى العارمة سيسهم في تأجيجها القناصل الغربيون، وأولهم وود قنصل بريطانيا.
* باحث لبناني

المراجع:
Courbage Youssef, Philippe Fargues, Chrétiens et Juifs dans l’Islam arabe et turc, Payot, Paris, deuxième édition, 1997 , 345 pages.
Makdisi Ussama, The culture of sectarianism: community, history, and violence in nineteenth-century Ottoman Lebanon , Berkeley, CA : University of California Press, 2000.
Poliak N. A., Feudalism in Egypt, Syria, Palestine, and The Lebanon, 1250-1900, The Royal Asiatic Society, London, 1939.
Poliak N. A., “ The Demographic Evolution of the Middle East: Population Trends since 1348”, in Palestine and the Middle East , Vol X, n. 5, 1938.
Salibi Kamal, “The Muqaddams of Bisharri: Maronites Chieftains in the northern Lebanon, 1382-1621”, in Arabica , 15, 1968, pp. 63-86.
Salibi Kamal, Crossroads to civil war: Lebanon, 1958-1976 , Caravan Books, 1976, 178 pages.
Winter Stefan, The Chiites of Lebanon under Ottoman Rule , 1516-1788 , Cambridge, UK: Cambridge University Press , 2010, 274 pagesو .

ألبر داغر، " عروبة الموارنة "، الاخبار، 21 نيسان 2010 ؛ أعيد نشرها في: ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، بيروت، دار الطليعة، 224 صفحة، ص. 52 – 58.
صقر أبو فخر، الهرطوقي الحكيم : حوار مع كمال الصليبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012، 195 صفحة .
كمال الصليبي، "حوار" ضمن محور "قضايا النهار " بعنوان : "هل سقط المشروع الأميركي في المنطقة؟"، النهار 7 /10 / 2008.
كمال الصليبي، الموارنة – صورة تاريخية، "ملف النهار"، 50 صفحة، 1970؛ الطبعة بالإنجليزية، دار نلسن، 2011.
كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة : الكيان اللبناني بين التصور والواقع، مؤسسة نوفل، 1989، 312 صفحة.
كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة الأولى، 1965؛ الطبعة الثالثة (بالفرنسية )، بيروت، دار نوفل، 1988، 349 صفحة .
كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، بيروت، دار نوفل، 1979 ، 213 صفحة .