مقالات للكاتب

ضحى شمس

الخميس 28 شباط 2013

شارك المقال

تهويد لبنان

قتلَ القانون الأرثوذكسي قانون الستين. ثم قتلت الاعتراضات على القانون الأرثوذكسي، الذي كان «وشيك» الولادة، هذا الأخير. فأصبح لدينا جثتان على الطاولة، لكن لا قانون بعد.
ومع أن مصلحة البلد واضحة في قانون النسبية دائرة واحدة خارج القيد الطائفي، إلا أن جميع مَن ليس له مصلحة لا يزال يراوغ، أي الجميع.

وبما أن زعبرات القوانين الانتخابية تتجاوز قدرة عقلي البسيط على الفهم، فقد لجأتُ إلى أحد الزملاء في القسم السياسي ليشرح لي «ماذا بعد»؟.. فإذا به يقول ما مفاده إن قانون الستين والقانون الأرثوذكسي أُلغيا مفاعيل بعضهما البعض، صحيح، لكن ليس هناك من جثث بعد، «لا تتفاءلي». هكذا يتخوّف الشاب أن يحيي التناحر وحسابات القوى أحد هذين القانونين.
يخرج السيد حسن، ويقول إنه مع النسبية دائرة واحدة.. فقط. أي أنه لا يتبنّى مشروع خارج القيد الطائفي، للسبب نفسه الذي كان وافق على الأرثوذكسي من أجله: أي من أجل شريكه السياسي. بالمنطق يحاجج: أذا انتخب كل اللبنانيون كل النواب، أكانوا مسيحيين أم مسلمين، أليست هذه مساواة؟

الوحيد الذي قدم اقتراح قانون وطني يجدر وصفه بذلك، كان.. ممثل حزب البعث، عاصم قانصوه. أي نعم. لماذا؟ لأنه بكل بساطة سليل الأحزاب العلمانية.. ولهامشيّة تمثيله. وبغضّ النظر عن مآل حزب ميشال عفلق، رحمه الله ورحم أياماً كان المسيحيون العرب هم مَن يؤسّس الأحزاب العلمانية ولا يجترحون قوانين مذاهب، فإن حركة قانصوه هذه التي وصفها أصدقاء بـ«التاريخية»، لن تكون «تاريخيتها» كافية ليقرّ اقتراح القانون. وبالتالي فإن رقابنا لا تزال تحت خطر سيف الستين أو الأرثوذكسي.
أي أننا، «جماعة» الورقة البيضاء، ومقاومة الطائفية في أقلام الاقتراع، لا زلنا في مرحلة عزلنا عن هذا الاستحقاق والمحرومين من المشاركة فيه بسبب ما يكرّسه من سلوك طائفي.. لذا، تصوّروا ما الذي سيكون عليه حالنا في القانون الأرثوذكسي.

كلما حاولتُ أن أتصوّر نفسي يوم الانتخاب، في قريتي المختلطة دينياً، واقفة خلف العازل وأنا أحاول أن أختار من بين مرشحي «مذهبي» حصراً، كلما بدا لي الأمر، إلى غبائه، مستحيلاً. أنا أختار مَن بين أولاد طائفة أصلاً لم أخترها؟ أنا أساهم في تكريس المذهبية قانوناً «للاجتماع» الوطني؟ وماذا سيعني بعد ذلك تعبير «اجتماع وطني»؟ أصلاً.. ما معنى «وطني» في هذه الحال؟
كلما حاولت تصوّر لحظة الانتخاب تلك، تذكرتُ يوم دخلت قطاع غزة وكان عليّ التعامل مع.. الشيكل. قبول التعامل بالشيكل، وقبول الاقتراع من بين مرشحي «طائفتي»، شيء واحد بالنسبة لي. تصرفان ينبعان من المبدأ ذاته، الحاجز النفسي نفسه، والمقارنة ليست مجازية.
وبرغم كل ما قاله مسوّقو هذا القانون عن أنه سيكون له «فضل» إخراج اللبنانيين من حالة «الإنكار» الطائفي والمذهبي التي يعيشونها إلى الاعتراف بواقعهم الأعوج.. «للبناء» عليه، إلا أن الحقيقة هي بكل بساطة أن البناء على قانون أعوج لن يقود إلا إلى مبنى أعوج سيزداد اعوجاجه كلما ارتفع البناء.. وصولاً إلى الانهيار.. إنها قوانين الفيزياء. وهي بديهيات.
يشبه الأمر أن نُعامل مريضاً بمرض خطر على أساس أنه انتهى، فنتقاسم ميراثه بانتظار موته، بدلاً من معالجته.
في الواقع؟ لا يفعل هذا القانون أكثر من مواكبة مسار المنطقة المتجهة إلى مزيد من الدويلات الطائفية لا بل المذهبية حيث يتحوّل «الآخرون» الباقون فيها إلى أهل ذمّة.. بانتظار رحيلهم.
وبما أنه يشجّع الفرز المذهبي، يصبح طبيعياً أن تصبح طرابلس «قلعة للسنّة» برعاية السعودية وتركيا وقطر للبترول والتدخل في شؤون الغير، وجبل لبنان محمية للموارنة تحافظ عليهم من الانقراض بالهجرة وتحديد النسل، وتربطها بالسعودية علاقات ممتازة قائمة على تشغيل الموارنة في المملكة لتمتع بعضهم بصفة الانفتاح في جونية، والجنوب قلعة للشيعة برعاية الجمهورية الإسلامية الإيرانية المطلّة على إسرائيل من عندنا، والجبل قلعة للدروز، يتقوقعون فيها أكثر ممّا هم.. أما قوننة عدم الاختلاط الطائفي، بمنع بيع العقارات لأبناء المذاهب الأخرى، فسيكون له فضل تكريس هذا الفرز جغرافياً..
في الماضي، درج تعبير «اللبننة»، على غرار ما درج في حقبة سابقة تعبير «البلقنة».. أما ما يحصل اليوم فهو ليس، إلا تهويداً للمنطقة، بعد لبننتها وبلقنتها...
وبالحديث عن التهويد، يشار إلى أن «اللذيذ» في القانون الأرثوذكسي هو أن الناجين الوحيدين اللذين يحق لهم اختيار مرشحين من غير طوائفهم هم.. اللبنانيون اليهود. فالقانون يورد ما نصّه «وأمّا الناخبون اليهود فيكون لهم الحق في الاقتراع لمَن يختاروهم من المرشحين المسلمين أو المسيحيين».
هكذا، لن يتمتع بصفة «الوطنية» إلا هذه الأقلية التي لم يعد لها على الأرجح من وجود في لبنان، والتي يحاول مَن بقي من أفرادها هنا، الاختباء، خوفاً من «مواطنيهم»، لسبب غامض على وضوحه، بالنسبة لي...
لذا تحذير: إن أدّت التسويات «الليبانو ـ لبنانية» إلى إقرار الأرثوذكسي، فإن كل مَن قد يقترع في ذاك النهار سيكون بمثابة شخص يوقّع عقداً مع الطائفية. وإن رأيتُ أحداً منهم بعد ذلك في تظاهرة لإسقاط النظام الطائفي، فالأرجح أن شيئاً ما سيسقط على رأسه.. من أنواع الأحذية المنتظرية.

مَن قال إن التعصّب أعمى؟ إنه مبصر جداً و«عارف طريقو»..

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي