حمودي (6 سنوات) كان الأكثر حيوية بين الأطفال الخمسة الذين كانو موجودين في غرفهم. تمكّن بهضامته وقوّته من جمع فريق العمل بأكمله داخل الغرفة. أمسك حمودي الغيتار وبدأ يعزف عشوائياً. دخلت الممرضة لتكشف على الأجهزة الموصولة بجسده، ضربها على يدها (ممازحاً) وصرخ «عم ندق مش وقت المرض هلق!». يقبع ابن السنوات الست في غرفته هذه منذ شهر ونصف. رسم على قناعه وجه «سبايدرمان» لأنه قوي. يرغب حمودي في أن يكون قوياً. أما إبراهيم (12 سنة) فأراد أن يرسم حديقة.
لا يهوى الموسيقى مثل حمودي، لكنه يحب الرسم كثيراً. رسم على قناعه عصفوراً طائراً لا يمكنه أن يقترب منه في الحقيقة. «أحب العصافير لكن لا أستطيع الاقتراب منها لأن فيها جراثيم». آلاء (11 سنة) تفضّل الرسم أيضاً. لم ترسم شيئاً محدداً، لكنها اهتمت كثيراً بمزج الألوان وخرجت بقناعٍ تملأه الألوان. جميعهم رسموا على أجسادهم وروداً وشخصيات كرتونية قوية وكتبوا أسماءهم. جدران المدخل امتلأت بالرسوم الفرحة التي رسمها فريق «آي ليف آرت».
قد تشكل هذه الأمور جميعها يوماً ترفيهياً عادياً، لكنها في الواقع علاج نفسي أثبت فعالية كبيرة في أوساط أطباء النفس. الهدف النفسي للتعامل مع مرضى السرطان هو تغيير المساحة التي يوجدون فيها، لأنهم بحاجة إلى استعادة الأمل. الموسيقى والقناع والرسم على الجسد والحائط شكلت أساس الفن العلاجي الذي اتُّبع في النشاط. رسم الأطفال أقنعتهم ووضعوها على وجوههم، لأنهم بحاجة إلى تكوين هوية مغايرة لكونهم مرضى سرطان، فكان القناع وجهاً آخر يلجأون إليه في حالات ضعفهم. أجسادهم التي تزيّنت بالألوان اعتكفت ذلك اليوم عن استقبال الأبر التي خطفت لون هذه الأجساد، فكان الرسم إثباتاً على أن أجسادهم ستعود لتمتلئ بالحياة والحيوية. أمّا الرسوم التي ملأت الجدران فكان الهدف الأساسي منها تغيير هيئة هذا المكان الذي يمضي فيه الأطفال وقتاً طويلاً من أجل أن يتأقلموا فيه.

الفن العلاجي

توضح الاختصاصية النفسية ورئيسة جمعية «آي ليف آرت» صولانج الهيبي أنّ «الفن العلاجي هو نوع من العلاج النفسي يقوم فيه المراجع بالرسم أو التشكيل بطريقته الخاصة، معبّراً عمّا في داخله من انفعالات نفسية لها تأثير سلبي على حياته ويصبو إلى تغييرها، ليصل إلى الصفاء الروحي والشعور بالرضا عن النفس». وتضيف «ما الفن إلا تعبير عن الأحاسيس والانفعالات الداخلية والخارجية، سواء أكان ذلك التعبير عن طريق الرسم أم عن طريق مجالات الفن الأخرى». إذاً الهدف من الرسم هو إخراج الطاقة السلبية وشحن طاقة إيجابية. ليس المطلوب أن يرسم الشخص لوحة إبداعية، بل على العكس كل ما كان الشخص يعرف القليل عن الرسم كان ذلك أفضل ليُخرج بعفوية ما في داخله.
جمعية «آي ليف آرت» متخصصة في هذا العلاج، وتُعدّ ضمن الجمعيات القليلة جداً في لبنان التي تعتمد هذه النظرية. هناك معالجون نفسيون يعتمدون الفن العلاجي لكنهم يعملون ضمن إطار فردي. كذلك هناك جمعيات ومؤسسات تعتمد على العلاج بالدراما والموسيقى، لكنهم في معظمهم فنانون وليسوا اختصاصيين نفسيين. منذ سنوات قليلة بدأت هذه الطريقة بالدخول إلى لبنان، إلّا أنها حتى اليوم لم تنتشر بشكل كافٍ، إذ إنّ النظرة إلى العلاج النفسي لا تزال تُصنّف من قبل المجتمع بطريقة خاطئة، وهو ما يشكّل عائقاً أمام معالجة مشاكل نفسية كبيرة يواجهها المجتمع اللبناني. إلّا أنه حالياً تتجه بعض منظمات المجتمع المدني إلى الاستعانة بالفن العلاجي كمحور تدخّلي مع الأفراد.

المستهدفون

يستهدف هذا العلاج جميع شرائح المجتمع، إلّا أنه يتوجّه بشكل خاص إلى الأفراد المهمشين مثل النساء المعنفات، النساء والأولاد في السجون، الأولاد في المخيمات، أصحاب الإعاقات الجسدية واللاجئين. يختلف العلاج الذي تخضع له كل فئة عن الأخرى، وذلك وفق الحالة النفسية للأفراد وظروف المكان الموجودين فيه. تشرح الهيبي «علاجات عدّة اعتمدت على الفن تمّ تطبيقها على هذه المجموعات. يتم اختيار الرسوم وفق الإشكالية المطروحة: النساء المعنفات يبحثن عن القوة والتصالح مع الذات لكي يرين أنفسهن جميلات ويستعدن الثقة بحالهن».

يتوجه العلاج
بشكل خاص إلى
الأفراد المهمّشين
هنا يجب اللجوء إلى رسوم تجسّد عملية تحرّر المرأة وتحولاتها ووضعها في إطار جميل يعطيها مكانتها. النساء في السجون يبحثن عن الأمان من أجل التأقلم مع السجن ليكون مكاناً مريحاً مع زرع أمل بالخروج منه نحو حياة أفضل. هذه الغاية لا يمكن أن يحققها جدار رمادي متّسخ. بل هنّ يحتجن إلى الألوان، إلى رسمة تخبرهن قصة كل يوم لتخفف عنهن فترة الاعتقال.
يختلف العمل على الصعيد الفردي عن المجموعات، إذ إن الهدف من التعامل مع مجموعة يكون بشكل أساسي تغيير هيئة المكان الذي يوجدون فيه من أجل مواجهة مشكلة عامة لدى الجميع. أمّا على الصعيد الفردي، فالهدف هو التنفيس عن شيء لا يستطيع المعالج التعبير عنه شفهياً، وهذا يتم في أغلب الأحيان مع الأولاد لأنهم يستطيعون التعبير من خلال الرسم أكثر من الكلام. المشاكل الأساسية التي يواجهها الأولاد في لبنان هي ثلاثة، وفق الاختصاصية صولانج الهيبي، «أكثر مشكلة يواجهها الأولاد هي العنف المنزلي، ثم تأتي بعدها مشاكل الخجل وقلة تقدير الذات». لا يمكن التعميم في مسألة الرسومات التي يمكن أن يرسمها الأولاد الذين يواجهون هذه المشاكل، لأن كل ولد لديه مخيّلة خاصة، إلا أنه في أغلب الحالات «يرسم الذين يواجهون عنفاً أسرياً كلباً وهرة يتشاجران. من النادر جداً أن يرسم أهله، إلّا إذا طلب منه المعالج أن يرسم عائلة، عندها يعبّر الولد عن نظرته إلى عائلته». الذي يواجه مشاكل خجل وقلة تقدير للذات يلجأ إلى رسم أمور تتعلق بالطبيعة وأمور تجعله يضع نفسه في إطار منعزل. وفي حال طلب منه المعالج رسم مجموعة، فسيضع نفسه بعيداً عن المجموعة أو يكون صغيراً جداً داخلها.
لا يقتصر الفن العلاجي على الرسم والتشكيل، بل يشمل أيضاً الموسيقى والمسرح والرقص. وكل واحدة من هذه تملك منهجية وتقنية مختلفة عن الأخرى، لكنها جميعاً تصبّ في الإطار الترفيهي الذي يحمل جوهراً علاجياً.