حتى الأسبوع الماضي، كانت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) لا تزال مجرد «مزحة» أو «وحش صنعه النظام السوري لإخافة الأقليات وإبقائها الى جانبه». لذلك، لم يكن خطف المطرانين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم قرب حلب، قبل عام ونصف عام، ليشكّل إنذاراً كافياً لمدى جدّية هذه الحركات الأصولية وتطرفها. لا احتلال معلولا وإحراق كنائسها غيّر في المشهد السوري شيئاً، ولا خطف الراهبات قوبل بردّ فعل غربي وعربي بحجم الجرم. مرّ كل ذلك بخفة تامة وسط استهزاء بعض السياسيين اللبنانيين بالخطر الأصولي: هذه ثورة الشعب.
في شباط الماضي، أصدر «الدولة الإسلامية» مرسوماً مماثلاً لمرسوم الموصل، طالب فيه المسيحيين بدفع الجزية ذهباً والتخفيف من المظاهر الدينية. وبدأ بعدها تنفيذ «الأحكام الشرعية» من جلد وقتل وصلب ورجم، ولكن هي الخفة ذاتها (المقصودة ربما) التي تدفع الكثيرين إلى القول إن «هناك من يطيل عمر النظام عبر فبركة الأخبار والفيديوهات وتضليل الصحافيين والوكالات الأجنبية». لذا كان من الضروري أن تعبر «الدولة» الحدود السورية باتجاه العراق لاستشعار الخطر فعلياً... والاعتراف به منعاً للإحراج فقط!
السبت الماضي انتهت المهلة التي حددها «داعش» لمسيحيي الموصل باعتناق الإسلام أو دفع جزية أو ترك المدينة وإلا فالموت بالسيف. وكانت النتيجة نزوح ما يقارب عشرة آلاف مسيحي، وهو ما لم يحصل منذ المجزرة الأرمنية في تركيا قبل نحو 100 عام. يقول بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الارثوذكس مار إغناطيوس أفرام الثاني إن غالبية العائلات المسيحية نزحت إلى إقليم كردستان وسهل نينوى فيما اختارت أخرى السفر إلى الأردن وسوريا ولبنان. إلا أن ما يثير الانتباه هنا، حديث البطريرك افرام الثاني عن عائلات أصرت على البقاء في الموصل «وفقدنا الاتصال بها»، وحتى الساعة «لا توجد معلومة واحدة عن مصير هذه العائلات».

دعوة للمرجعيات الإسلامية لإتخاذ
موقف واضح مما
يحصل في العراق

ترأس أفرام الثاني أمس، بعد خمسة أيام على «جريمة الحرب» (كما سماها في كلمته)، لقاء في المقر البطريركي في العطشانة ـــ بكفيا ضم ممثلي الكنائس الموجودة في الموصل «للتشاور في وضع المسيحيين في الموصل. كان الحشد الكنسي كبيراً: النائب البطريركي للأبرشية البطريركية للسريان الكاثوليك مار يوحنا جهاد بطاح، رئيس الطائفة الكلدانية في لبنان المطران ميشال قصارجي، راعي كنيسة المشرق الأشورية في لبنان الأب يترون كوليانا، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط الأب ميشال جلخ، الأب كارلو يشوع، الأمينان العامان المشاركان في مجلس كنائس الشرق الأوسط الشماس جيمي دنحو وإلياس الحلبي، مطارنة الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في لبنان، رئيس الرابطة السريانية حبيب افرام إضافة إلى الشيخ العراقي عبد الرحيم الموسوي، السفير العراقي في لبنان الدكتور رعد الألوسي والقنصل العراقي في لبنان الدكتور وليد عبد القادر العيسى. اقتصرت كلمة افرام الثاني على التنديد «بالتهجير الممنهج للمسيحيين مرفقاً بعبارات واشارات عنصرية واهانات وسرقات «داعش»، وما يمثله من عمل وحشي غير مسبوق في العلاقات التاريخية بين مسيحيي هذه المنطقة ومسلميها». ودعا البطريرك المسلمين وقياداتهم الى «اتخاذ موقف واضح»، مستغرباً الصمت الحاصل «إلا من بعض القيادات الروحية والمدنية والمراجع الإسلامية». الا أن الظلم الحاصل من «حرق كنائس واستيلاء على المقدسات لن يدفعنا الى طلب الحماية أو المساعدة من الغرب»، معلناً «أننا سنقصد أعلى المرجعيات الدولية في الأمم المتحدة وهيئة حقوق الإنسان لمطالبتها بأن تقف مع الشرعة التي تدعي أنها تعمل بها». كذلك توجه الى الحكومة العراقية و«الإخوة الأكراد» من أجل حماية المسيحيين وكشف عن اجتماع طارئ مع بطاركة المشرق في وقت قريب وعن تشكيل وفد مسيحي مشرقي لطرح هذه القضية في الأمم المتحدة وفي المحافل الدولية. ورداً على سؤال عن مدى تواصل الكنيسة مع السلطات العراقية، قال افرام الثاني إنه لا تنسيق مباشراً مع أي سلطة مدنية أو سياسية في العراق، إنما المطارنة على اتصال بالسلطات الكردية «لتأمين عيش كريم لأبنائنا»، مشدداً على أن أرض الواقع تؤكد أن «هذه الجهات الإرهابية مدعومة من دول». ولكنه من جهة أخرى، حمّل حكومة بغداد مسؤولة أمن المسيحيين وسلامتهم. بدوره وصف الشيخ عبد الرحيم الموسوي ما يجري بـ«التطهير ومن واجبنا الأخلاقي والوطني والديني ان نتضامن ولا نكتفي بالتضامن فحسب، بل يجب أن تذهب الى أبعد من ذلك بكثير وأن نذهب الى أعلى المؤسسات الدولية في العالم لوضع حد لمثل هذه المهاترات بدماء وأرواح وممتلكات الناس».
لم يدم المؤتمر أكثر من نصف ساعة، ونقل مباشرة على عدد من قنوات التلفزة، لينتهي صداه مع انتهاء البثّ كما كان متوقعاً. مسيحيو العراق الذين سبق لهم أن هُجرّوا عام 2003 ها هم يعيشون التجربة مجدداً بعد 11 عاماً وسط صمت غربي وعربي قاتل. احدى كنائس الموصل التي شيّدت منذ أكثر من 1500 سنة أحرقت، فيما أنزلت الصلبان عن بعضها الآخر. توزعت العائلات على المناطق الآمنة نسبياً في العراق ومعظمها اليوم يسكن المدارس أو يفترش الأرصفة في انتظار تشييد مخيمات أو نقلهم الى أماكن سكن لائقة. وبحسب الموجودين، لا تنظيم مسيحياً مسلحاً سوى حرّاس القرى والمدن. هي المرة الأولى التي تفرغ الموصل من المسيحيين وسط تخوف البعض من وصول «داعش» الى مناطق اخرى في محافظة نينوى. البطريرك افرام الثاني كما الكنائس الأخرى يعملون بقدر ما هو متوافر للضغط على الجهات المعنية «فما زلنا نؤمن بالعودة». وفي النهاية، رسالة إلى الإعلام اللبناني: «الموصل تستأهل نشرة أخبار موحدة أسوة بغزة».