لا يمكن لقبعته السوداء التي تشبه قبعة شارلي شابلن أن تغيب عن أي احتفال عوني متني. تحت القبعة، وجه خمسيني باسم باستمرار، وعينان تكادان لا تُريان تحت نظارات طبية صغيرة. تكتمل الصورة بلحية رمادية غير مشذّبة وجديلة طويلة تتجاوز كتفيه الهزيلتين. لا يتماهى وجه ايلي كفوري بالطبع مع معظم الوجوه التي حضرت حفل العشاء السنوي لهيئة التيار الوطني الحر في قضاء المتن الشمالي أخيراً. فيما تتجوّل البزات والفساتين والكاميرات ببطء بين الطاولات لحشد العيون حولها، يتكئ هو بعيداً على خشبة منصة الخطابات مرتدياً «جينز» وقميصاً قطنياً مخططاً.
يشبه كفوري نفسه الى حدّ بعيد: شيوعي نشأ في عائلة مخيبرية، ودفعه «ايمانه» بالدولة الى وضع نفسه «في تصرف» مخابرات الجيش اللبناني أواخر الثمانينيات. عمل لاحقاً مندوباً انتخابياً عن بلدته المتنية، شرين، لمصلحة ماكينات عدة، من النائب ميشال المر الى النائب السابق غبريال المر وصولاً الى النائب الراحل نسيب لحود، قبل أن ينخرط في التيار الوطني الحر إثر عودة النائب ميشال عون من منفاه الفرنسي عام 2005.
«كانوا يسمّوننا ثوريي (ثوريين)»، يقول كفوري عن غالبية أبناء شرين. الضيعة الصغيرة تعدّ بمثابة حيّ من بلدة بتغرين مسقط رأس الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الشهيد جورج حاوي. عام 1984 صدمت كفوري سيّارة، فكان «أبو أنيس» أحد من ساهموا في سفره للعلاج في روسيا. «بقيت ثلاثة أشهر بسبب خطورة وضعي وفقداني لجزء من رأسي وتعطل يدي ورجلي». صمدت العملية التجميلية نحو عشرين عاماً الى أن «اضطررت، بسبب عوارض جانبية، الى ازالة الجزء البلاستيكي الذي يغطي رأسي، فظهر الجزء المشوه مجدداً». هكذا بدأت قصة القبعة السوداء التي يعتمرها منذ أكثر من عشرة أعوام، «أما الشعر واللحية، فكرمال الكاريزما».
مع بداية الحرب الأهلية، «نزل» كفوري، رغم صغر سنه، الى الشارع مع «الثوار» الذين كانوا يتلقون «السلاح من الفلسطينيين»: «كان لدينا كلاشنيكوف في حين كان النائب ميشال المر والكتائب يحاربون بالجفت». يعقّب: «الكتائب كانوا متل الدواعش، حواجز طائفية وترهيب». أطلعه رفاقه على كتب ماركس ونيتشه، واصطحبوه الى ندوات للقائدين الفلسطينيين «أبو جهاد» و«أبو إياد».

الماركسية تعني
أن يتوزع القانون والشرع بالمساواة على الجميع

ولأن «الماركسية ضد فرط الدولة»، أعجب كفوري، في الثمانينيات بقائد الجيش آنذاك الجنرال ميشال عون فبدأ مشواره مع الجيش اللبناني. يستفيض في سرد تفاصيل تلك المرحلة من نقله معلومات الى مخابرات الجيش حول تحركات الجيش السوري، وصولاً الى اقتياده الى فيلا جبر في بولونيا، ثم سفره الى روسيا. يرفض كفوري وصفه بـ «المخبر». اذ «لم أكن أنقل الى الجيش سوى الأمور التي تهمّ الدولة وتحافظ عليها، لا تفاصيل حياة الجيران». وهو، لذلك، لم يتردد في ابلاغ «نقاط» كان يسمعها في تحركاته اليومية أو أثناء تردده الى مكتب ابن خاله «أبو شهيد»، عميد الدفاع في الحزب «القومي» يومها. «كنت أعرف أن مهمتي خطرة ووصلني مرة أن السوريين أمروا باغتيالي، رغم ذلك عندما أصرّ قريبي على رؤيتي لم أتردد في الذهاب. هناك، كان يجلس «أبو وائل» مدير المخابرات في الحزب القومي الذي لم يوجه إليّ سوى سؤال واحد: كيفو الياس، في اشارة الى الملازم الياس شامية الذي كنت أمدّه بالمعلومات». ويضيف: «ما ان حلّ الليل حتى وصلت سيارة تابعة للمخابرات السورية التي كان يديرها أبو نضال: بس ينزل عبتغرين كانت ترقص رقص من الخوف». اقتادته السيارة الى فيلا جبر في بولونيا، وتحديداً الى مكتب «ابو نضال»، «لأني كنت قد أفشيت الى الملازم شامية ببعض النقاط حول خطة السوريين الأولية لاغتيال رئيس الجمهورية السابق الياس الهراوي». كان «أبو نضال» يدور على كرسيه، يتابع كفوري، «طلبت منه أن أتكلم مرة واحدة وأخيرة: اذا انت بتخون حافظ الأسد أنا بخون ميشال عون. ضرب بيده بقوة على الطاولة صارخاً في وجهي، ثم أمر بإيصالي الى بلدتي موصياً إياي بالابتعاد من العمل السياسي. لكني رفضت وقلت له: انا دمي سياسي وبكرا الايام بدا تفرجيك انو ميشال عون من ذات طينة الأسد»!
في موازاة السياسة، اهتم كفوري بالرياضة وأعاد تأسيس ناد لكرة الطائرة ترأسه في أوائل التسعينيات لمدة عامين. يومها رفض الانخراط في اتحاد أندية المنطقة التابع للنائب ميشال المر. ولكنه، «اضطر» عام 1992 الى العمل مندوباً انتخابياً للمر في شرين بعد أن ساهم أحد أصدقائه من مرافقي «أبو الياس» في توظيفه في وزارة الهاتف: «أنا شيوعي ضد المر، ولكني قرأت اللعبة الخارجية جيداً. نُفي الجنرال ونحن مكسورون وأنا موظف صغير في الهاتف من دون أي مقومات، ليش بدي اترك الشارع يلعب فيي». يومها، طلب حاوي من كفوري عدم المشاركة، «فسألته ان كان باستطاعته حمايتي في حال رغب المر بقتلي وكان جوابه سلبياً» لاحقاً، توفي النائب منير أبو فاضل الذي كان يشغل المقعد الأرثوذكسي في عاليه: «عمل أبو أنيس تسوية مع أبو الياس وأنا ما بيحقلي اقعد موظف لساعتين». بعد الانتخابات، «قالتلي الست سيلفي (زوجة المر) مستقبلك كبير عنا، قلتلها أنا أديت واجبي والى اللقاء. كنت عم حاسب نفسي لأني عملت غير قناعاتي واشتغلت انتخابات لخصمي».
استمر كفوري في وزارة الهاتف حتى عام 1996، سافر خلالها الى روسيا في اجازة غير مدفوعة حيث أنشأ معملاً للحلويات، ليعود بعدها الى لبنان ويقدم استقالته متفرغاً لعمله الخارجي. ومع قرب انتخابات عام 2000 وكون عائلة كفوري مخيبرية، «بدأ المر بفرض غرامات على محل الحلاقة الذي يملكه شقيقي. لم يصمد جمعة وأعلن ولاءه للمر». عاد الناشط المتني في العام نفسه من روسيا بسبب افلاسه وعزم على المشاركة في الانتخابات النيابية كمندوب للنائب الراحل نسيب لحود «الذي اعتبره من الشرفاء». استطاع كفوري حصد 160 صوتاً من أصل 350 في بلدته لمصلحة لحود، متجاوزاً بذلك الرقم الذي حصده النائب الراحل بيار الجميل (127 صوتاً). بدوره، خصص لحود لبلدة شرين يومها ميزانية زفت وباطون قيمتها ثلاثة ملايين ليرة بحسب كفوري.
تحرّر «الشيوعي» من قيود المر، وعلى هذا الأساس خاض معركة 2002 الانتخابية في بلدته الى جانب النائب غبريال المر حليف لحود على اللائحة: «كان جورج حاوي قائد الحملة ببتغرين الى جانب غبريال ضد شقيقه ميشال. هون كان انتقادي للشيوعيين لي صاروا تجار بينقلوا ولاؤن من ميلة لميلة». عام 2004، رشّح كفوري نفسه الى «المخترة، رغم محاولة غبريال وجورج شرائي ثم سحبهما لمرشحيهما عشية انتخابات المخاتير. ولكني أصريت على الترشح وحيداً رافضاً اعطاء صوتي للمر مرة أخرى. تبرع شباب عونيون بطباعة صوري وتوزيعها. خضت الانتخابات ونلت 111 صوتاً مقابل 245 للمختار المدعوم من المر والذي كان يهددني بالسلاح». ومع عودة عون عام 2005 وعدم وجود مندوب عوني في بلدة شرين، وقع خيار منصور فاضل على كفوري مباشرة. رفض الأخير التخلي عن لحود «النظيف بالسياسة والمنتقد لأداء الحريري والذي تخلى عن كل شركاته اللبنانية»، مؤكداً أن الصوت الثامن في اللائحة سيكون من نصيب لحود: «أنا من أول ما فتت عالمهرجان الانتخابي للعونية بضبيه قلتلن أنا عوني وبحترم نسيب لحود بس، لأنو الباقي تجارة». قبيل الانتخابات، يدعو بيار رفول المندوبين الى اجتماع، فيسأله كفوري ان كان المر عضواً في اللائحة أو لا. سريعاً يطمئن رفول سائله امام جميع الحاضرين باستحالة التحالف مع المر، فيما أعلن عون في اليوم التالي التحالف لضرورات استثنائية. وفت بلدة شرين بوعدها للحود الذي نال نحو 126 صوتاً مقابل نحو 140 صوتاً لبيار الجميل: «انا كنت عالفرز، الكتائب ما حطو نسيب»، في المقابل حصد النائب غسان مخيبر 260 صوتاً مقابل 200 للمر، «فطار عقلو». شارك كفوري لاحقاً في انتخابات 2009 الى جانب العونيين فقط وبات حزبياً ملتزماً. هو معجب بمسيرة النائب ميشال عون وانفتاحه على حزب الله: «من دونن ما في شي اسمو استقرار وورقة التفاهم هي لي وحدت الجيش والمقاومة». بنظره الماركسية لا تعني أن يعطي أصحاب رؤوس الأموال نصف ما يملكون للشعب الفقير، انما أن يتوزع الرأسمال بالتساوي على الجميع. والرأسمال هنا هو القانون والشرع. «وعون لو قال أوكي عبعض النقاط كان دغري إجا رئيس متل الرئيس السابق ميشال سليمان، ولكن عون ما بيبيعني وبيشتريني. هاي الماركسية». فبلدة شرين «خلقت لتحارب الاقطاع»، يختتم كفوري، لذلك لن تكون سوى مع السياسي الحر والنظيف.