أثارت أفكار المطران غريغوار حداد (1924) اللاهوتية والروحية التجديدية التي نشرها في مجلة «آفاق» عام 1974، موجة انتقادات عنيفة. اعتبرها كثيرون خروجاً عن الكاثوليكيّة، ما أدى إلى هجوم على حداد، ورفع القضية إلى الفاتيكان. يومها، درست لجنة من كبار اللاهوتيين القضية، ترأسها الكردينال الألماني، جوزيف راتزينغر.
لاحقاً، أصبح راتزينغر على رأس الكرسي الرسولي وصار اسمه البابا بينديكتوس السادس عشر. أصدرت اللجنة آنذاك قراراً اعتبرت فيه أنّ كتابات المطران حداد لا تتناقض مع الإيمان المسيحي الكاثوليكي. ورأت أن حلّ المشاكل الإدارية شأن محلي. في النهاية، اتخذ قرار بعزل الأب حداد من الـ«سينودوس» الذي يترأسه رئيس أساقفة أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما مكسيموس الخامس حكيم، التي تعد واحدة من أهم أبرشيات بطريركية أنطاكية للروم الكاثوليك. وعيِّن كرئيس أساقفة أضنا شرفاً، أي مطران فخري على أبرشية لم يعد لها وجود. أشعل هذا القرار موجة احتجاجات شعبية مؤيدة للمطران ومنددة بقرار الـ«سينودوس». لكن المطران المتمرّد أصر على مناصريه أن ينهوا التحركات، خصوصاً الاعتصام الذي أقاموه في مقر المطرانية. لم يرد حداد أن تتمحور القضية حول شخصه كي لا تحجب القضية الأساس: قضية الإنسان.
يرقد الأب غريغوار حداد اليوم في المستشفى. رغم المرض، تجده قارئاً نهماً ومتابعاً لكل الأحداث والمجريات في لبنان والعالم العربي، ولا يزال يعد الأبحاث اللاهوتية. بصعوبة، استطعنا طرح بعض الأسئلة عليه عن الوضع الراهن. أجابنا برحابة صدره المعهودة دائماً. في الحديث عن «الراهن»، يصنّف حداد الثورات العربية على أنها «فورات» لا ثورات. الثورة برأيه تكون «في العمق». لكنه لا يعادي حراك الشعوب، إذ يرى أنّه «فتح الطريق لإمكانية تغيير وخلق وضع جديد».


«سيطرة الرأسمالية على
العالم» تعيق الثورة الحقيقية
يعتقد أنّ أحد المعوقات الأساسية في عدم تحقيق ثورة حقيقية هو «سيطرة الرأسمالية على العالم». أن يتحدث هو بالذات عن الرأسماليّة من منظور علمي لا شعبوي، ليس بالأمر الغريب. إنه المطران المتواضع الذي تجنب مسايرة الأعراف البورجوازية، فلم يعتنق مظهراً من مظاهر «الأبهة» التي تميّز الأساقفة عادةً. اكتفى بثوب كهنوتي أسود كسر كل حاجز قد يفصله عن أبناء رعيته، وكان يرفض أن ينحني أمامه الكهنة والعلمانيون ليقبلوا يده. كما رفض اللقب الأسقفي «سيدنا»، وكان يردد دائماً: «كلنا متساوون أمام الله».
ينظر حداد إلى الشباب بعين التفاؤل. هم «الأمل في صنع التغيير الإيجابي خدمة للإنسان»، طالباً منهم أن يتحلوا بالوعي «وعي واقع التخلف والظلم والاستغلال والتبعية من أجل محاربته». يوصيهم بالمدنيّة. يجزم بأنّ جهوده التي بذلها لم تثمر كما كان مطلوباً. في هذا الصدد يقول: «بعد بكير». كانت العوائق كبيرة: «كان يمكن أن نفعل الكثير، لكن كم كان ذلك ممكناً أو متاحاً نسبة للظروف، وخصوصاً مع اندلاع الحرب اللبنانية». تلمس الأسى في كلامه. ولذلك يحث الشباب على ضرورة «متابعة ما بدأناه وتجاوزه». يشدد: «لا تتكلوا على الماضي». «المطران المتمرد»، تلك كانت واحدة من ألقاب غريغوار حداد وصفاته العديدة. إلى ذلك، هو مطران الفقراء، المطران العلماني، ومطران الشباب. لم يكتسب غريغوار هذه الألقاب عبثاً. لفترةٍ خلت، شكل ظاهرة فريدة ومتميزة في تاريخ لبنان والمجتمع المسيحي، منذ انتخابه مطراناً مساعداً في أبرشية بيروت، مروراً بتعيينه مطران بيروت وجبيل للروم الكاثوليك حتى ما بعد «عزله». في آليات التغيير المثمر الذي لم ييأس منه حتى بعد الإقصاء، يفضّل «مطران الفقراء» الثورية والجذرية، ولكن بالنظر إلى الواقع المعقد، يمكن أن تُعتمد سياسة «ضربة على الحافر وضربة على المسمار» وإلا فلا نتيجة ترتجى. كان حداد قد دعا إلى إصلاحات جذرية في المؤسسات الدينية، وأعاد النظر في كثير من المسلّمات التي يعدّ المساس بها من المحرّمات، كما طرح الأسئلة الصعبة والمزعجة وعمل على تحرير البحث الديني من الخوف والجمود والصنمية. حارب «الأبونا حداد» كل ما من شأنه أن يسلب الإنسان إنسانيته، وكان طليعياً في الدفاع عن حقوق الفرد المدنية والسياسية، وأسس في سبيل ذلك «الحركة الاجتماعية» عام 1957، كما أنشأ لاحقاً «تيار المجتمع المدني»، ومن خلاله دعا إلى العلمانية الشاملة «كونها تشكل علاقة حياد إيجابي تجاه جميع الأديان والايديولوجيات». وهذا ما زال يبحث عنه اليوم، إذ ما زال يردد: «العمل من أجل الإنسان جوهر الحياة».
لا يعرف حداد الحقيقة: «أبحث دائماً عنها». علمانيته كانت تأكيد إيمانه بالله: «مؤمن بالله ولذلك أنا علماني، ومؤمن بالعلمانية دعماً لإيماني بالله». في البداية بدت أفكاره كأنها آتية من عصر آخر، وهذا ما حدا بصحيفة «لوموند» الفرنسية إلى وصفه في مقال نشر يوم 2 حزيران (يونيو) 1974 بـ«مطران لبعد غد».




وثائقي جديد عن حياته

ينكب الشاعر والإعلامي اللبناني جوزيف عيساوي على تصوير وثائقي عن المطران غريغوار حداد عبر الإضاءة على حركة مجلة «آفاق» التي كانت مقالاته ومقالات رفاقه فيها سبباً لنقمة الاكليروس عليه ومحاكمته بتهمة الهرطقة. نجح عيساوي في جمع فرسان المجلة الأب بولس الخوري، والأب ميشال سبع، والدكتور جيروم شاهين. علماً أنّ الوثائقي ليس تمجيداً ولا تأريخاً منهجياً لحركة المطران في الكتلة الشرقية والمجتمع اللبناني، هو الذي كان سباقاً الى مأسسة العمل الاجتماعي والتيار المدني وطرح العلمنة الايجابية تجاه الدين حلاً لمأزق النظام الطائفي.