وجّهت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت، زلفا الحسن، صفعة قوية الى شركة beIN sports، محتكرة حقوق نقل مباريات كأس العالم، والتي تقدّمت بدعوى ضد تلفزيون لبنان لمنعه من متابعة بث المباريات والاقتصاص منه بحجة مخالفته حقوقها التجارية الحصرية.
ردّت الحسن الدعوى «لعدم الاختصاص»، إلا أن حيثيات القرار تضمنت ثلاثة أسباب تنطوي على موقف ضمني بعدم أحقية الدعوى، أوّلها يتصل بعدم حصول الشركة المدعية على ترخيص يتعلق بحقّ البث الحصري في لبنان، وثانيها يتصل بوجود آثار تترتب على العقد الموقّع بين «سما» (ممثل beIN في لبنان) ووزارة الاتصالات لتوفير حق اللبنانيين بمتابعة المباريات، وثالثها أن أي ضرر تجاري ممكن حصوله من جراء بث تلفزيون لبنان للمباريات لا يحتاج إلى تدبير مستعجل، لأنه قابل للتعويض لاحقاً عبر دعوى أمام القضاء العادي المختص.
قرار القاضية الحسن ليس شكلياً، بل يمكن وصفه بالقرار التاريخي، لكونه يتقاطع مع سجال عالمي يدور حول «حقّ الاطلاع» ومدى خضوعه للاحتكار التجاري والحصرية المتنافية معه، وهو ما أقرّت به المحكمة العليا الأوروبية بعد نزاع بين الفيفا ومحطات تلفزيون بلجيكية وبريطانية، فضلاً عن نزاعات قضائية أخرى حصلت في محاكم أوروبية مختلفة، انتهت كلّها الى تكريس حق الجميع في متابعة أحداث رياضية وثقافية مهمّة ووضعه في مرتبة أسمى من الحقوق التجارية.
محلياً، تحولت المواجهة مع تلفزيون لبنان الى قضية رأي عام، استدعت تدخّل هيئات من المجتمع المدني طعنت في خلفيات الشركة المدعية ونياتها ضدّ تلفزيون لبنان. وهو ما حدا بالقاضية الحسن إلى قبول تدخل أشخاص ونقابات يمثلهم المحامي نزار صاغية في الدعوى، باعتبارها تجسّد «إهانة لكل اللبنانيين».
قرار القاضية الحسن بردّ الدعوى لعدم الاختصاص استند الى أن مضمون النزاع بين beIN sports وتلفزيون لبنان يفترض أولاً بتّ نزاعات متشابكة تتعلق بثلاث مسائل:
ــ أولاً: مدى وجوب استحصال الشركة على ترخيص من المراجع المختصة في لبنان حتى تقول إن لديها حقاً حصرياً في البث في لبنان وممارسة هذا الحق.
ــ ثانياً: إن العقدين الموقعين بين وزارة الاتصالات (عبر شركتي الخلوي المملوكتين من الدولة) وشركة «سما»، وهذه الأخيرة هي الممثل الحصري لشركة الجزيرة الرياضية التي تعمل تحت الاسم التجاري beIN sports، تضمنا دفع أموال عامة من أجل التنازل عن حقوقها، ولكنّ لهذا العقد أثراً على النزاع المطروح، وهو ما يستدعي أولاً تبيان هذه الآثار.
ــ ثالثاً: بما أن الأضرار التي يطالب بها المدّعي، أي شركة beIN sports، هي أضرار قابلة للتعويض، فإنها لا تحتاج إلى أي تدبير مستعجل، وبالتالي يصبح اختصاص العجلة واقعاً في غير محله.
لكن ما لم تقله الحسن في قرارها، بل استندت إليه من دون أن تذكره، هو أن شركة beIN sports استخدمت حقّها التجاري الحصري لتمارس التعسف ضدّ الشعب اللبناني، بحسب ما قاله رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان طلال المقدسي الذي رأى أن هدف الشركة هو «ابتزاز المواطن اللبناني»، متسائلاً «هل طلبت الشركة أيّ بدل مالي ولم نتفاوض معها؟».

دفوع المدافعين ضد الشركة

بحسب دفوع محامية تلفزيون لبنان نسرين حرب والمحامي نزار صاغية بوكالته عن الجهات التي طلبت التدخل دفاعاً عن حقوق اللبنانيين في مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم عبر تلفزيون لبنان، فإن عناصر أساسية عدّة أسهمت في التوصل إلى قرار ردّ الدعوى لعدم الاختصاص:
ــ إن نصّ العقد الموقّع بين شركتي الخلوي المملوكتين من الدولة اللبنانية وشركة «سما» وهي الممثل الحصري للشركة المدعية، يُلزم الجهة المدعية التي ليس بإمكانها التبرّؤ مما أعطاه وكيلها الحصري. وتفسير هذا العقد يؤول إلى القول بأنه «يمنح اللبنانيين كافة من دون استثناء حق مشاهدة مباريات كأس العالم بالمساواة فيما بينهم، من دون تمييز، وان إجازة نقل المباريات من خلال الكابلات السلكية إنما هدفت إلى تسهيل وصولهم الى هذا الحق، من دون أن يعني ذلك بحال من الأحوال منع نقل المباريات بوسائط أخرى. وهذا مثبت بالوقائع. وأي قول معاكس يعني أن موقّعي العقد من جانب الدولة وشركتي الخلوي قد أساؤوا استعمال المال العام، وأن الشركة الممثل الحصري للمدعية قد تواطأت معهم من أجل ذلك.
ــ إن اعتبار قيام تلفزيون لبنان ببث مباريات كأس العالم تعدياً، يؤدي عملياً إلى حرمان فئة كبيرة من اللبنانيين من حق مشاهدة هذه المباريات، وبالتالي يؤدي إلى انتهاك الجهة المدعية للعقد الموقّع من وكيلها الحصري في لبنان، من خلال إخلالها بواجب حسن النية والتعاون لضمان حسن تنفيذ العقد وفقاً للغاية منه. وهذا الأمر يتيح لتلفزيون لبنان بثّ المباريات ضماناً لحقوق المواطنين. وفي الحدّ الأدنى، فإنه لا صلاحية لمحكمة الاستعجال في تفسير أي غموض يكتنف العقد المذكور بين غايته في تأمين مشاهدة المونديال، والوسائل المنصوص عليها فيه، لأن التفسير يخرج عن صلاحية هذه المحكمة، ما يستدعي إعلان عدم صلاحيتها.
ــ وجود نزاع جدي حول مفعول حقّ حصرية البث على ضوء العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ ففي هذا المجال، هناك جدل عالمي حول مدى مشروعية إعطاء حقّ حصري في بثّ مباريات كأس العالم أو أحداث أخرى ذات أهمية اجتماعية أو ثقافية كبيرة. وقد انتهت محكمة العدل الأوروبية إلى اعتبار هذه المباريات حدثاً اجتماعياً مهماً يغلب بشأنه في المجتمعات الديمقراطية حقّ الجمهور بالاطلاع على حقّ التجارة والملكية والتعاقد... وقد بيّنت هذه القضايا أن حقّ الاطلاع هو الأسمى.
ــ أن إثبات حق الحصرية ومنع بث تلفزيون لبنان وفق العقد الموقع بين وزارة الاتصالات وشركة سما، يظهران أن هناك تعسفاً في استعمال الحق، لكون المصلحة الوحيدة منه هي الإساءة إلى المدعى عليه واللبنانيين.
ــ أن العقد الموقّع بين سما ووزارة الاتصالات ينص على تأمين مشاهدة المباريات لكل الشعب اللبناني، فضلاً عن أن هذا النزاع التجاري ليس محله في القضاء المستعجل.

تلفزيون لبنان ليس وحيداً

إذاً، لم يكن تلفزيون لبنان وحده في المواجهة القضائية مع شركة BeIN (الجزيرة الرياضية سابقاً)، فقد انضم اليه المحامي نزار صاغية كمتدخل بوكالته عن ثلاثة مواطنين متضررين من هذه الممارسات الاحتكارية، هم المحامي نجيب فرحات المقيم في برعشيت (قضاء بنت جبيل)، والوزير السابق شربل نحاس المقيم صيفاً في اللقلوق (قضاء جبيل)، وماهر صاغية المقيم في بينو (قضاء عكار)، فضلاً عن نقابة العاملين في الاعلام المرئي والمسموع ممثلة برئيس النقابة رضوان حمزة.
لا يعقل أن
تستخدم وسيلة غير قانونية (الكابلات) لتأمين حق البث
هؤلاء طلبوا التدخل لكونهم يقيمون في مناطق نائية ليس فيها كابلات للنقل التلفزيوني، ولا فرصة أمامهم لمتابعة المباريات سوى تلفزيون لبنان المملوك من الدولة، وبالتالي هم يمثلون المتضررين من أي تذرع بالاحتكار لحرمانهم من حق متابعة المباريات.
الدفوع التي تقدّم بها المحامي صاغية رأت أن هذه الدعوى تمثّل إهانة حقيقية لكل مواطن لبناني. فرغم أن الممثل الحصري للمدعية (سما ش.م.م.) قد قبض من وزارة الاتصالات بواسطة شركتي الخلوي المملوكتين بالكامل من الدولة مبالغ مالية لتمكين «اللبنانيين» (كل اللبنانيين من دون استثناء) من مشاهدة مباريات كأس العالم، فإن المدعية (BeIN) لم تجد حرجاً في الادعاء على تلفزيون لبنان على خلفية أنه ليس له حق البث، من دون أن تدلي بكيفية تأمين حق البث لجميع اللبنانيين من دون استثناء. وكأنها بذلك تسترد باليسرى ما كان يعطيه ممثلها الحصري (سما) باليمنى لقاء بدلات مرتفعة مقتطعة من المال العام.
وقال صاغية أمام القاضية الحسن إن الطلب الحالي الذي يتقدم به طالبو التدخل إنما يمثّل دفاعاً ليس فقط عن حقوقهم، بل أيضاً عن قيم اجتماعية ثلاث بالغة الأهمية:
ــ الأولى، المساواة في الحقوق بين اللبنانيين، إذ لا يعقل أن تقوم شركات مملوكة من الدولة (شركتا الخلوي) بالتمييز بين هؤلاء في أي اتفاق يتم لمصلحتهم.
ــ الثانية، الحقوق الأساسية للمواطنين في الاطلاع على المعلومات وفي التمتع بالحقوق الثقافية، وفق العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الحسن: بتّ دعوى الشركة المحتكرة يتطلّب بتّ نزاعات لا تدخل في اختصاص محكمتها
ــ الثالثة، دولة القانون والحق، إذ لا يعقل أن تستخدم وسيلة غير قانونية (الكابلات) لتأمين حق البث لقسم من المواطنين اللبنانيين، فيما يحظر استخدام وسيلة قانونية (تلفزيون لبنان) لتأمين حق البث لجميع اللبنانيين. ففي هذه الحالة لا نكون فقط أمام تمييز، ولكن أمام تمييز لمصلحة الأشخاص الذين يخالفون القانون. فإما أن الوكيل الحصري تنازل عن حق البث لجميع اللبنانيين مخوّلاً إياهم جميعاً الاستفادة منه (وهذا ما نتمسك به)، وإما أنه تواطأ مع الدولة وشركتي الخلوي لاستعمال المال العام لجزء من اللبنانيين ولتنفيع كابلات غير شرعية، وهذا ما نرفضه على اعتبار أنه عبثي، ونكون في هذه الحالة أمام علاقة فساد وإساءة استخدام للمال العام، ما يستدعي إحالة الملف على النيابة العامة المالية لملاحقة القيمين على القطاع العام الى جانب شركة سما الممثل الحصري لشركة BeIN صاحبة الاحتكار.
من جهته، رحّب وزير الإعلام رمزي جريج بردّ الدعوى ضد تلفزيون لبنان، وقال «إن حق المشاهد اللبناني هو حق دستوري مستمد من المواثيق الدولية التي التزم بها لبنان، وإن هذا الحدث يدخل ضمن مفهوم الاحداث ذات الأهمية البالغة، وإن هذا الحق الذي كرسه اجتهاد المحاكم الاوروبية في قضايا مماثلة يعلو ويتفوق على أي حق بالحصرية، يمكن افتراضاً لشركة تجارية أن تتذرع به».
وأشار إلى أن «الدولة اللبنانية ممثلة بهيئة القضايا في وزارة العدل قد تدخلت في الدعوى تأييداً لموقف تلفزيون لبنان، كما تدخل للغرض نفسه أشخاص من المجتمع المدني». وأمل «أن يكون بث مباريات كأس العالم على شاشة تلفزيون لبنان خطوة في درب الاصلاح المرجو من تلفزيون لبنان كي يصبح في طليعة المؤسسات التلفزيونية في لبنان».




قصة احتكار منبوذ

الوزير السابق شربل نحاس، وهو أحد الاشخاص المتدخلين في الدعوى القضائية بصفته متضرراً، وافق على وصف قرار القاضية الحسن بأنه «تاريخي». في رأيه أن خلفية القرار مهمّة لأنها تكمن في «كون الفيفا حوّلت نقل المباريات إلى عمل تجاري، وهي منظمة لا تبغي الربح، وتحوم حولها شبهات في ما خص إقامة الألعاب الأولمبية في قطر»، ويوضح أن الفيفا «أعطت beIN sports القطرية حقوق نقل وبث مباريات المونديال مقابل 50 مليون يورو، وهذه الأخيرة أعطت شركة سما حصرية بيع الرموز لبث المباريات في لبنان». وبالتالي، فإن الجهة التي دفعت كل هذا المبلغ «يُفترض أنها تسعى إلى تحصيله وتحقيق أرباح عليه، بمعنى أنها لا تمتلك حق منع بث المباريات، بل إن اتفاقها مع الفيفا يمنحها حق التفاوض على تقاضي قيمة مالية مقابل البث... إلا أن المفارقة أن هذه الشركة لم تستدرج أي عرض، بل رفضت الردّ على مراسلات تلفزيون لبنان ووزارة الشباب والرياضة، علماً بأن المنطق التجاري يفرض عليها البيع لتحصّل أموالها»، يقول نحاس.
إزاء هذا الواقع، ذهبت الدولة اللبنانية في اتجاه رسم اتفاق مع الشركة التي تحمل حقوق البث في لبنان، أي شركة «سما». ببساطة، انتهى الأمر بتوقيع اتفاق بين وزارة الاتصالات و«سما» تحصل بموجبه على 3.3 ملايين دولار مقابل حقوق البثّ «لكل الشعب اللبناني كما يرد في المادة الخامسة من هذا العقد»، وفق توضيحات المقدسي. عملياً، تذرعت الشركة المدعية بأن الاتفاق ينحصر بوسيلة نقل المباريات عبر الكابلات غير الشرعية، إلا أن الواقع يفيد بأن هذه الكابلات لا تطال سوى 40% من الشعب اللبناني، وبالتالي فإن 60% ليس لديهم فرصة مشاهدة المباريات»، يقول المقدسي، ويصرّ على أن العقد مع سما «رفع الضرر عن أصحاب الحقوق، وبالتالي فإن بثّ المباريات وإتمام هدف الاتفاق هما أمر ضروري لا يكتمل إلا ببث تلفزيون لبنان للمباريات، وهذا ما حصل».