شكّل نجاح الانتخابات الرئاسية السورية مفصلاً نوعياً في سيرورة عسكرية وسياسية شغّالة في اتجاه إنهاء التمرد المسلح واستعادة سيطرة الدولة على القسم الرئيسي المعمور من الجمهورية؛ لم يعد للمجموعات المقاتلة، بما فيها أقواها أي «جبهة النصرة»، أي أفق سياسي، وستتلاشى بالمصالحات والقوة معا؛ لكن التحدي الكبير المقبل هو الذي يتمثل في مشروع ما يسمى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»؛ غير أن هذا التحدي يقع في فضاء يتخطى سوريا، بل يشمل، أيضا، البلدين المشرقيين، العراق والأردن، بالإضافة إلى السعودية وتركيا والأكراد.
لا فائدة من قراءة مشروع «داعش» من خلال نهجها التكفيري الصارم الهمجي؛ فهذا النهج مجرّد أيديولوجيا هدفها الانفصال عن التمرد السوري (وهذا هو السبب الفعلي لصدامها مع «النصرة» وفصائل «القاعدة» الأخرى) وتخدم مشروعا جيوسياسيا هدفه انفصال الجزيرة الفراتية ومجمل بادية الشام، وتأسيس دولة قبائلية فيها. حركة «داعش» وقوتها الأساسية تقعان في حدود إقليم يمتد على مساحة 518.000 كلم مربع في جنوب شرق سوريا وشمال شرق الأردن وغرب العراق، وتتواصل أطرافه، نحو السعودية وتركيا؛ حتى الآن أوجدت «داعش» لنفسها مقرا في الجزيرة السورية، في الرقة، وفي الأنبار العراقية، ولكنها تملك خلايا نائمة في معان الأردنية. وهي كلها تقع في الإقليم نفسه.
لدى متابعتي صفحات «مثقفة»، وحتى «مدنية» صديقة لـ «داعش»، أدهشني أن المناقشات تدور حول اتهام فصائل السلفيين التكفيريين الأخرى، بأنها تخضع لسايكس بيكو، بينما يتحاور آخرون حول حدود الدولة المأمولة؛ وهي تقع حقاً «في» العراق والشام، ولا تشملهما كلهما، ما يشير إلى واقعية الاستراتيجية التي تسعى «الدولة» إلى تنفيذها. وفي نبذتين أقتبسهما من ذلك الحوار، يتضح فضاء المشروع الداعشيّ؛ النبذة الأولى تقول «الجزء الشرقي من سوريا يعتبر من الجزيرة وليس من الشام. وقد كانت ولاية الجزيرة مستقلة عن ولاية الشام في بعض الأحيان. وعند الفتح الإسلامي كانت مستقلة عن الشام وعن العراق. وكان العراق، آنذاك، يشمل الكوفة والبصرة»، وفي الخط نفسه تؤكد النبذة الثانية «هناك جزء من تركيا يعتبر من بلاد الشام. وأيضاً هناك جزء من العراق يعتبر من بلاد الشام (...) وقد أخبرني بعض الأخوة العراقيين أن حد الشام في العراق ينتهي عند آخر الفلوجة تماماً على نهر الفرات. وهذا يؤيده كلام ياقوت الحموي».
على كل حال، تحول تقسيمات حدود سايكس بيكو ، بالفعل، بين الجمهور المشرقي وبين تلمّس ما يمكن اعتباره الفضاء السوري العراقي الأردني المشترك؛ فبادية الشام هي نجد صحراوي مثلث الشكل يمتد باتجاه الشمال من صحراء النفود الواقعة في شمال شبه الجزيرة العربية إلى الفرات، في ما يشكل إقليماً متواصلاً، غنياً بالموارد الطبيعية والمراعي وكان، دائما، منازل لقبائل عربية كبرى، تحضرت أقسام منها، واندمجت في الدول الحديثة الناشئة بعد الحرب العالمية الأولى، لكن التفكك الاتني والطائفي والجهوي والفشل التنموي في هذه الدول والانفصال الكردي والتمرد السوري وحال الفوضى في المشرق، كلها عناصر ساعدت على إحياء الذاكرة القبلية في هذا الإقليم. ولقد أنفقت العديد من الساعات على الشبكة العنكبوتية لقراءة مواد نشرت، ويتم نشرها بكثافة في الآونة الأخيرة، حول بادية الشام وزعاماتها التاريخية وماضيها السياسي وتوزع قبائلها وحجمها وأيها أجدر بالرئاسة الخ. ويبدو لي أن هذه هي الحاضنة الجغرافية الاجتماعية السياسية لـ «داعش» ومشروع دولتها الانفصالية الموعودة. وتلائم الأيديولوجيا التكفيرية المتشددة، تلك الحاضنة وهذا المشروع. ومن الملفت أن تلك الملاءمة لم تغب عن بال مؤسس الوهابية في نجد، محمد بن عبد الوهاب، وفي رسائله المنشورة، رسالة ودية تحاول استمالة «فاضل آل مزيد، أمير بادية الشام»، ومنها «... فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله».
ولا تتسع هذه المساحة للاسترسال، غير أني أرى أن في ما تقدّم ما يكفي من الإشارات، للتفكير في الآتي:
أولاً، مشروع «داعش» ليس مجرد طوباوية تسعى لإقامة دولة اسلامية في سائر بلاد الشام والعراق، وانما هو مشروع انفصالي لإقليم شامي ـــ عراقي؛
ثانياً، لهذا المشروع أساس واقعي يتمثل في حاضنة جغرافية اجتماعية سياسية ثقافية لإقليم مهمش ومفقَر على غناه بالنفط والغاز والفوسفات والمعادن الأخرى والمراعي والامكانات الزراعية؛
ثالثاً، يستغل المشروع التفكك الطائفي الاتني للدولة الوطنية العراقية ، والتمرد السوري، والانفصال السياسي للبادية الأردنية عن النظام كما ظهر جليا، على سبيل المثال، في معان جنوبي شرقي البلاد؛
رابعاً، لا يتعارض قيام دولة انفصالية في اقليم الجزيرة والبادية، مع المصالح الغربية والإسرائيلية، بل إنه يخدمها فعلياً من خلال إضعاف الدولتين السورية والعراقية، واشغالهما في حرب مستمرة، وتقسيم شرق الأردن لإتاحة قيام وطن بديل في الأجزاء المحاذية لفلسطين.