تدخل تركي جديد في الأزمة السورية بدأ منذ أسبوعين، لكنّه هذه المرة مختلف عن كلّ ما سبقه، وتُنذر مضاعفاته بكارثة غير مسبوقة تتهدّد سوريا والعراق معاً. ففي خطوة تنتهك كلّ الأعراف الدولية، قطعت الحكومة التركية أخيراً واردات مياه سد الفرات نهائيا. ووفق معلومات حصلت عليها «الأخبار»، بدأت أنقرة منذ قرابة شهر ونصف شهر بخفض ضخ مياه الفرات على نحو تدريجي، وصولاً إلى قطعها تماماً منذ أسبوعين.
وأوضح مصدر، طلب عدم الكشف عن اسمه، أن مستوى ارتفاع المياه في «بحيرة الأسد» (التي تُخزن مياه سد الفرات) قد انخفض أخيراً عن منسوبه الطبيعي بستة أمتار (ما يعني فقدان ملايين الأمتار المكعبة من المياه). وقال المصدر إن «انخفاض المنسوب متراً إضافياً يعني أن السد بات خارج الخدمة». ووفقاً للمصدر، فإن «الإجراء الواجب اتخاذه في مثل هذه الحالة هو إغلاق أو تخفيض الصادر المائي من السد، ريثما تعالج المشكلة الأساسية المتمثلة في وقف الوارد المائي إليه».
وهذا الأمر لم يقم به تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، الذي يقع السد في مناطق سيطرته، ويتولى موظفو «المؤسسة العامة لسد الفرات» تشغيله تحت سيطرة التنظيم القاعدي، من دون أن يمتلكوا صلاحية اتخاذ قرارات مفصلية، مثل خفض الصادر المائي، كما أن هذا الإجراء، في حد ذاته، ليس أكثر من إجراء إسعافي، يفقد فعاليته ما لم يعد الوارد المائي إلى السد بقرار تركي.

المضاعفات الكارثية للاعتداء التركي بدأت في الظهور، حيث انخفض مستوى المياه في ناحية الخفسة في ريف حلب الشرقي (وتقع فيها محطة شفط الماء من بحيرة الأسد وضخها عبر قنوات الجر إلى حلب وريفها). وتشير معلومات «الأخبار» إلى أنّ المياه الموجودة في الخزانات الاحتياطية في الخفسة باتت على وشك النفاد. (يُتوقع أن تنفد تماماً بحلول مساء اليوم أو صباح غد على أبعد تقدير). ما يعني بقاء حوالى سبعة ملايين سوري دونَ مياه. كذلك توقف سد تشرين عن تلقي أي قطرة ماء، وبالتالي توقفت عنفات توليده الكهربائي، ما يعني خفض كمية الكهرباء الواصلة إلى حلب وريفها، ودخولها في مرحلة جديدة من انعدام التوازن الكهربائي (المعدوم أصلاً).
أما في الرقة، فقد باتت الجهة الشمالية من «بحيرة الأسد» خارج الخدمة بالكامل، من قرية سويدية صغيرة شرقاً وحتى الجرنية غرباً، ما يهدّد بالعطش حوالى مليوني سوري فيها.
وتؤكد مصادر «الأخبار» أن «فقدان السد لمخزونه المائي، يعني جفاف الطمي في البحيرة، ما يمثل ضغطاً على البنية الانشائية للسد، ويعرضه للتشققات والانهيار حتماً»، وبالتالي فإنه «لا بدّ من إغلاق السد للحيلولة دون جفافه». ومن شأن إغلاق السد (في حال قَبِل داعش) أن يؤدي إلى كارثة انسانية، وبيئية (حيوانية وزراعية) في سوريا، كما في العراق.
وعلمت «الأخبار» أن «مبادرة أهالي» (الذين سبق ان قاموا بمبادرات عدة لإيجاد حلول توافقية لعدد من القضايا في حلب) قد بدأوا سباقاً مع الوقت لطرح حلول إسعافية للمشكلة، وعلى رأسها محاولة إعادة المحطة الحرارية في السفيرة إلى العمل، ما قد يسهم في موافقة «داعش» على الاستغناء عن عنفات سد الفرات، وبالتالي إبقاء منسوب مياه البحيرة في حدوده الحالية. ويندرج هذا الحل (في حال نجاحه) في إطار إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، والحد من تفاقم الكارثة، التي وقعت بالفعل، وصار انقطاع المياه أمراً حتمياً، ولا حل جذريّاً له ما لم تتخذ حكومة أنقرة قراراً بإعادة ضخ مياه الفرات. مع الأخذ بعين الاعتبار أن عودة مياه البحيرة إلى منسوبها الطبيعي تحتاج إلى قرابة شهر، بعد عودة الضخ.

صراع تاريخي

يُعد الخلاف حول التصرفات التركية في شأن مياه الفرات تاريخياً، ومستمراً، بين تركيا من جهة، وكل من سوريا، والعراق من جهة أخرى. وتصرّ أنقرة على اعتبار نهر الفرات «نهراً عابراً للحدود»، لا «نهراً دولياً»، وهو بالتالي «غير معني بالقوانين الدولية»، كما أن تركيا واحدة من ثلاث دول (مع الصين، وبوروندي) اعترضت على «الاتفاقية الدولية لاستخدام المجاري المائية في أغراض غير الملاحة الدولية»، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1997.
وفي عام 1987 جرى توقيع الاتفاقية السورية التركية، وهي اتفاقية مؤقتة لتقاسم مياه نهر الفرات بين البلدين خلال فترة ملء حوض سد أتاتورك. ونصت على تعهد الجانب التركي أن يوفر معدلاً سنوياً يزيد على 500 متر مكعب في الثانية عند الحدود التركية السورية مؤقتا إلى حين الاتفاق على التوزيع النهائي لمياه نهر الفرات بين البلدان الثلاثة الواقعة على ضفتيه. وقامت سوريا عام 1994 بتسجيل الاتفاقية لدى الأمم المتحدة لضمان الحد الأدنى من حق سوريا والعراق في مياه نهر الفرات.