أنا آسف لأنني لستُ في بيروت، لأصرخ في الشارع، وسط الجمهور الصغير الذي خرج يحتجّ على تجرؤ المحكمة الدولية على «الأخبار» و«تلفزيون الجديد»؛ ليس هذا مجرّد اعتداء على مؤسستين اعلاميتين، أو على شخصين بعينهما؛ إنما هو مسعى لتدمير آخر ما بقي من آخر لبنان: حريّة الصحافة.
ما سيحدث للمؤسستين، وللزميلين «المطلوبين»، رهن بموازين القوى السياسية؛ لكن ما سيحدث لحرية الصحافة في لبنان، حَدَثَ بالفعل؛ فالهجمة، بالأساس، تستهدف التخويف ودفع المئات من الصحافيين والكتّاب والمثقفين والمناضلين.. نحو موقع «النأي بالنفس» عن ملفٍ محاط بالتهويل الدولي، وباسم القضاء القادر في ميدان رماية؛ لا رحمة ولا تسامح؛ الكلمة محسوبة على كاتبها، والصرخة مسجّلة بالصوت والصورة: لا دعاوى على المحتجين؟ نعم؛ لكن انقطاع الرضا أكيد.. وويلٌ لمن لا ترضى عنه عاصمتا الوهابية، الرياض والدوحة، فتخرجانه من جنتهما! وويلٌ لمَن قيّد حياته بسلاسل شتّى العبوديّات غير المرئية، حين يقف أمام امتحان الضمير.
بالطبع، هناك الكثير من طمأنة النفس بأنها معركة جزئية، معركة حزب الله و8 آذار؛ فليتكفّلا بها: لماذا يكون علينا أن نخوض غماراً خطراً من أجل كباشٍ جانبي؟ كلا. ليست هذه معركة حريّات. لو كانت كذلك... ولكنها ليست كذلك؛ إنها عَرَضٌ من صراع المحورين ليس إلاّ! ثم إن في «الأخبار»، الكثير من الحرية حتى التلاطُم، والكثير من الحدِّة حتى انفجار الكلمات؛ بالمقابل، سيقال إن «الجديد» ليس مهنياً ولا يتبع خطاً، ولا يخضع لمبادئ؛ لا هذه ولا ذاك يتمتعان بجدارة التضامن!
ولعلّها «قضية صغيرة» عند المناضلين والمقاومين، لا تستأهل الانشغال والتحشيد والقتال؛ ولعلّها... ولعلّها؛ إنما، في النهاية، تكاد الصهيوهّابية أن تحصد نتائج هذه الهجمة كاملةً؛ نشر الرعب وخنق الأصوات: سنكشف للخارجين عن الخط أنهم معزولون! هذا الميدان لنا! تلفزيوناتنا هي وحدها الحرة، حتى في أن تبثّ النداءات لقطع الرؤوس، بلا حسيب ولا رقيب! وصحافتنا هي، وحدها، صحافة العربيّ في زمن المحرّك الوهابي للقفزة «القومية الديموقراطية» الكبرى، القادرة على حشد الأمة، نصرةً وداعشيين وإخواناً و«يساريين» و«مدنيين»، وما بينهما؛ بعضهم متخصص في القتل وأكل القلوب، وبعضهم في تفجير الجسور والمصانع، وبعضهم «يبحث»، وبعضهم «يكتب»، وبعضهم يموء، وبعضهم ينوح. جيشٌ عرمرم؛ لكل شاغرٍ تسعة موظفين، وعاشر في الطريق، لئلا يبقى إرهابي أو يسراويٌ ليبراليٌ مدنيٌ، عاطلاً... أو ينبض في عروقه، نداء حرية حقيقية.
مَثَلُ تجرؤ المحكمة الدولية على حرية الصحافة في لبنان، كمَثَلِ تجرؤ سمير جعجع على الترشّح لرئاسة لبنان؛ الأخير، أيضاً، خَطَفَ المُرادَ من اللحظة الأولى لارتفاع الأيدي؛ جرَّعَ لبنانَ كلَّه، ونضالَه ومقاومَته، كأسَ الإهانة؛ هناك أحداثٌ لا تقع فعلاً، ولكنها تحدث.. ويتحقق المطلوب منها بمجرد المحاولة، وبمجرد أن ردّ الفعل لم يكن بالرمزية نفسها؛ لم يصر جعجع، ولن يصير، رئيسا للبنان، لكنه صار عنوانا لنصف اللبنانيين، وأملاً يبعث السعادة في قلب أحمد الجربا، الممثل الأعلى لجماعات الإجرام في سوريا. تُرى لو كان مسيحيو معلولا وحلب والرقة وكَسَب الخ، «قواتيين»؛ هل كانوا نجوا من الصلب والجزية؟
ليست مشكلة عندي في أن يكون خيارُك السياسيُّ ضدَّ 8 آذار، أو أنك ترى أن حزب الله كذا وكيت. هذا، في النهاية، خيارٌ؛ بل حتى يمكنك أن تتحالف مع جعجع أيضاً؛ فالسياسة صراع يتطلّب التحشيد... أما أن تجعل جعجع عنوانكَ ومرشحكَ الرئاسيَّ، ولو في تظاهرةٍ رمزية؛ هنا، تفقد كل ما بقي عندك من رموزٍ أو معان.
وليست مشكلةً عندي في أن تكون ضدَّ خط «الأخبار» وجنونها وحريتها غير المهجّنة وحدّتها الفظة؛ ولكن أخشى أنك لا تلاحظ أن في جنون وحرية وحدّة «الأخبار»، ما يُبقي على الرمقِ الأخيرِ من حرية الصحافة في لبنان والعالم العربي! «الأخبار» الآن ليست منبراً سياسياً خصماً أو مضاداً، نحبه أو لا نحبّه؛ إنما هي الآن عنوان رمزي لحرية الكلمة، لحقّ الصحافة في أن تنشئ صفحات بلا قيود ولا أجندات، تتصارع على بياضها التيارات والأقلام، ولا تسودّ بالرشى! إنها، اليوم، قلبُ لبنان وعنوان ما بقي فيه من حرية؛ فلستَ معذورا، أيها الزميل والرفيق والمواطن، ألا تقف مع «الأخبار»، علناً... في الهنا والآن.
حاشية شخصية:
حين أراجع كتاباتي في «الأخبار»، تدهشني مساحة الحرية التي تحرّكتُ وأتحرّكُ فيها؛ كتبتُ لها ــــ ونشرتْ هي دائما ــــ ما عَنَّ لي من دون حسابٍ لعدوٍ أو لحليف؛ وخضتُ معاركَ على كل الجبهات، ما لا يمكن أن يتيحه منبرٌ آخر أبداً من كلا المحورين؛ صحيفة حرة حقاً إلا من الالتزام الوطني والأخلاقي؛ أنا منها وفيها، على السرّاء والضرّاء، وعلى التضامن والتكافل.