لا يكاد يمرّ يوم، حتى من أيام الركود الوطني، من دون أن يرتكب الاحتلال الإسرائيلي جريمة ما بحق أبناء الشعب الفلسطيني؛ ليس ذلك مجرد تعبير عن التعبئة الحاقدة لدى جنود الاحتلال، بل هي عملية منهجية هدفها ترويع الفلسطيني، ووضعه، دائماً، في سياق نفسي من انعدام الشعور بأمنه الشخصي وأمن عائلته، ودفعه إلى مغادرة وطنه أو القبول بفكرة الهجرة. والمؤسف أن الاعتداءات على الأفراد الفلسطينيين المسالمين أصبحت تمرّ من دون ردة فعل موازية في درجة الأهمية، أحياناً تمر كأنها حادثٌ عادي، مثل ما ينتج عن اصطدام سيارتين من قتلى وجرحى.
لكن استشهاد رائد زعيتر على معبر اللنبي على نهر الأردن بين فلسطين المحتلة والأردن، أحدث ردود فعل أردنية شعبية غاضبة؛ تحشيد تحت عنوان اقتحام السفارة الصهيونية في عمان، اعتصام جماهيري ــــ وليس نخبويا كالمعتاد ــــ أمام مقر السفارة، كان من الشدّة بحيث تخلت الحكومة الأردنية عن تكتيك «الأمن الناعم»، لتفضّ الاعتصام بالقوة، وتعتقل نشطاء، وتكثف الحراسة بما يوازي تقديرها لحجم الغضب الشعبي المتنامي.
الجريمة، بطبيعتها، حاقدة وبشعة؛ فزعيتر (38 عاما) ــــ الفلسطيني الحاصل على الجنسية الأردنية ــــ هو قاضٍ، وهو ما يلزمه بعدم الانتساب إلى أي حزب أو منظمة أو الانخراط في نشاط سياسي. ويعطيه منصبه القضائي وضع الشخصية الاعتبارية. وحين أطلق عليه الجنود الإسرائيليون، النار، كان عائداً من زيارة عائلية اعتيادية إلى ذويه في الضفة الغربية. وكل ذلك، يضاعف من دلالات الجريمة الصهيونية؛ فهي، من جهة، تبرهن مجدداً على العنصرية والوحشية الصهيونية في التعامل مع الفلسطينيين المسالمين، وهي، من جهة أخرى، تمثّل صفعة للأردن الذي تتصاعد في صفوف قواه الشعبية وبرلمانه، موجة عداء لإسرائيل. هذه الموجة الآن تتصاعد، وتخترق أوساطاً اجتماعية جديدة؛ ما لا تدركه أطراف مشروع كيري هو أن الأردنيين والفلسطينيين، القلقين من دفعهم نحو الصدام بسبب التفريط والتوطين، اكتشفوا، بديناميات العقل الجمعي الخلاّقة، أن الطريق الوحيد لإنقاذ الشعبين من مصير أسود، هو صبّ كل تيارات الغضب في اتجاه واحد، نحو إسرائيل. هكذا، يستعيد المجتمع وحدته، وتراصه، وتتم المحافظة على الهويتين والكيانين.
لو كان رائد زعيتر سقط على الحدود الأردنية ــــ السورية، لربما أعلنت الرؤوس الحامية في عمان، الحرب على سوريا، لكن هذه الرؤوس ــــ وهي، وليس في الأمر مفارقة، نفسها المغرمة بالسلام مع إسرائيل ــــ تلقت الرسالة الإسرائيلية بالكثير من «ضبط النفس»؛ جرى استدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلي، والطلب إليه التحقيق في «الحادث». لكن، وبغض النظر عن نتيجة التحقيق، فـ «الحادث» هو تعبير عن نهج في معاملة الفلسطينيين في الضفة والمعابر الحدودية مع الأردن؛ حتى إشارة احتجاج على هدر الكرامة الشخصية، ستواجَه بالرصاص. التحقيق الذي ينبغي أن تطلبه عمان ــــ ورام الله ــــ هو، إذاً، عن نوعية الأوامر المعطاة للجنود الإسرائيليين في الضفة المحتلة ومعابرها الحدودية، حيث يشترط الإسرائيليون البقاء في ظل «الدولة» الفلسطينية الموعودة.
يطرح «حادث» استشهاد المواطن الفلسطيني ــــ القاضي الأردني، زعيتر، قضية السيادة على المعابر الحدودية بين البلدين، فلسطين والأردن؛ فأي تفاوض يسمح بوجود ثالث فيها، يعني استمرار كل هذه العذابات والإهانات وحتى التعرض للقتل، مما يواجهه الفلسطينيون والفلسطينيون الأردنيون، يومياً، على الجسور، ويستهدف تحطيم العلاقة بين هؤلاء وديارهم.
هل هناك أي فرصة لدولة فلسطينية سيدة تكفل الانسياب السهل لمواطنيها داخلها و خارجها، وتمكينهم من العودة للإقامة في مدنهم وقراهم، وحفظ مصالحهم وكراماتهم وحيواتهم؟ لا يحمل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في جعبته مشروعاً كهذا، ولا حتى ذلك الوطن المصغّر المترابط الحر اللازم لإعادة بناء المجتمع الفلسطيني والمواطنة الفلسطينية المدنية ليس لللاجئين عامي 1948 و1967، بل لأبناء الضفة الغربية أنفسهم الذين يعانون ويضطرون إلى هجرة ناعمة زادت عن المليون باتجاه الأردن.
زعيتر هو نموذج لأولئك المهاجرين الذين لم يجدوا الفرصة والأمل في وطنهم، لكنه ظل مرتبطاًَ بأرضه وناسه، ودفع ثمن هذا الارتباط وحرصه على كرامته كإنسان، حياته على أيدي جنود الاحتلال.
لا مكان لإسرائيل في بلادنا، ولا حل للقضية الفلسطينية من دون تنفيذ حق العودة الفعلي أو السياسي، ولا دولة فلسطينية من دون زوال الاحتلال. نعم، بالتأكيد، إنما مشكلة الفلسطينيين في الضفة الغربية، اليوم، هي أسوأ كثيراً؛ إنهم مستهدَفون باضطرارهم إلى الهجرة، ومن ثم إلى قطع الصلات بجذورهم في الأرض؛ وليس ثمة مَن يساعدهم: أولا، ينبغي، أقله، تجميد السلام والمفاوضات مع إسرائيل حتى، أقله، ضمان مصالح الناس وحرية مواطني الضفة وغزة في التنقل الآمن الكريم. ولو؟ أكثيرةٌ هذه؟ ثانياً، ينبغي، أقله، الشروع في خطة دعم اقتصادي وسياسي واعلامي للصامدين المتجذرين في أرضهم.