بالكثير من الثقة، وبعبارات جازمة أو بطلّة الحكمة، قرر عشرات المحلّلين والكتّاب والباحثين والأكاديميين أن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، مستبعد. وكما يليق، كتبوا أو تحدثوا، بإسهاب، عن استخدام «القوة الناعمة»؛ الضغط الاقتصادي والدبلوماسي الخ... هذه الرطانة كانت تُعاد على شاشات الفضائيات، السبت، حين أضاء الخبر العاجل: الرئيس فلاديمير بوتين، يستأذن «مجلس الاتحاد الروسي» بإرسال الجيش إلى الأراضي الأوكرانية.
ردّ المجلس الإيجابي جاء مشفوعاً بطلب سحب السفير الروسي من واشنطن، رداً على إهانة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لروسيا. أوباما، مثل المحللين السياسيين، لم يكن يتوقع تدخلاً عسكرياً روسياً في أوكرانيا، فتورّط بوعيدٍ لا يستطيع الوفاء به: سوف يجعل روسيا تدفع الثمن.
ما أردتُ قوله هو إن أعضاء نخبة الفكر السياسي في بلادنا، حتى أولئك الذين نظّروا منهم لظهور التعدد القطبي وصعود روسيا، لم يدركوا، بعد، جدية وعمق الصراع الذي تخوضه روسيا الصاعدة، ليس فقط لاستعادة موقعها ودورها الدوليين، بل أكثر؛ إنها تسعى لإعادة صياغة عالم ما بعد القطب الواحد. وهذا العالم الذي يرتكز إلى تضامن قوى اقتصادية وسياسية وثقافية وعسكرية جبّارة (جبّارة بمعنى جديد غير مسبوق)، كالصين ودول البريكس وحلفائها، هو في وضع هجومي تاريخياً؛ ذلك أنه يطرح رؤية شاملة للعالم تقوم على مبادئ الشرعية الدولية والسلام والدبلوماسية؛ صحيح أنها كانت موجودة كنظريات، أهملها حتى السوفيات، لكنها تحولت، اليوم، إلى استراتيجية معتمدة لدى الحلف الروسي ــــ الصيني، كدولتين عظميين.
يقوم جوهر هذه الاستراتيجية على استنتاجين أساسيين من تجربة الصين: (1) يمكن أن تكون هناك رأسمالية وطنية ناجحة بقيادة الدولة المركزية ــــ وهو ما يستلزم، في النهاية، نوعاً من الديموقراطية الاجتماعية ــــ خلافاً لكل النظريات الغربية التي تربط النجاح الرأسمالي بالليبرالية والنيوليبرالية، (2) يمكن القيام بالتوسع الرأسمالي غير المحدود وغير المسبوق، من دون استعمار أو حروب عدوانية، على العكس من العقيدة الشيوعية التقليدية القائلة بأن الامبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية؛ فمن الواضح أن هذه العقيدة ترتبط بنمط واحد من الرأسمالية هو الرأسمالية الغربية، الناشئة في بيئة ثقافية عدوانية عنصرية حربجية توراتية إلهها هو إله الحرب يهوه. ولكن، في ثقافة أخرى آسيوية مسالمة تعتمد على روح الإخاء والحلول الوسط وتوافق المصالح، يمكننا أن نرى، وقد رأينا، توسعاً رأسمالياً هائلاً وعالمياً، كالتوسع الرأسمالي الصيني، من دون إمبريالية ولا حروب، بل على أساس التفوق الابداعي والانتاجية والتعاون التنموي مع البلدان الأخرى.
وما سمح بنجاح الرأسمالية الوطنية الصينية في كنف الدولة، وتوسعها العالمي سلمياً، لا يستند، فقط، إلى الثقافة الصينية وحجم السوق الصينية، وإنما يرتبط، أيضاً، بالتطورات الثورية التي عرفتها الرأسمالية العالمية نفسها كثورة المعلومات والاتصالات والعولمة الاقتصادية الخ، ولكن بإخضاع كل تلك التطورات للمصالح الوطنية.
روسيا ــــ التي وهنت وأُذلّت باتباعها الرؤى الغربية والوصفات النيوليبرالية ــــ تعلّمت الدرس الصيني، إنما روسيا هي غير الصين؛ إنها، بالأساس، قوة عظمى في مواردها الطبيعية الهائلة وقدراتها الثقافية والعلمية والتقنية والصناعية والفضائية والعسكرية، ما يؤهلها لقيادة العالم الجديد.
ومن الواضح أن استراتيجية أساسها التطلّع إلى التوسّع السلمي، ستؤكد على الشرعية الدولية، وتحميها عندما يتطلب الأمر بالقوة؛ ومن ذلك احترام سيادة الدول وعدم السماح بتغيير الأنظمة بالعنف، وعدم استخدام التهديد العسكري أو العقوبات الاقتصادية في السياسة الدولية، والبحث عن حلول سياسية للأزمات على أسس واقعية، من دون استخدام الشعارات الأيديولوجية كغطاء لنسف الشرعية والقانون الدولي. وبطبيعة الحال، فإن هذه الاستراتيجية لا يمكنها أن تكون فعالة من دون بناء القوة العسكرية اللاجمة للمعتدين والمغامرين، واستخدامها عند الحاجة.
تعيش الامبريالية الغربية، في المقابل، مرحلة وهن اقتصادي وعسكري. وهي مصرّة على رفض الطريق السلمي والحلول الوسط لضمان مصالحها، وتلح على اتباع الوسائل الحربية. وبما أن الذراع العسكري الأساسي للإمبريالية، وهو جيش الولايات المتحدة، كان قد كُسر في العراق، وتبين أن استخدامه مكلف وغير ناجع معاً، انزاحت الامبريالية، كليا، إلى استخدام المتطرفين اليمينيين، وكتل اليمين الجماهيري، لتقويض سيادة الدول ــــ أو تدميرها من خلال الحروب الأهلية ــــ وفرض حكومات عميلة للغرب، وامتصاص دماء الأمم لصالح الرأسمالية الغربية المأزومة؛ في العالم العربي والاسلامي، يتم استخدام المجموعات السلفية الجهادية، وفي الغرب، يتم استخدام النازيين والفاشيين الجدد، كرأس حربة لتجميع عناصر انتفاضات أقلوية مدعومة من الإمبرياليين، واشعال الحروب الأهلية على أسس تعود إلى القرون الوسطى.
روسيا تدافع عن استراتيجيتها العالمية الجديدة في سوريا، بالدعم السياسي والدفاعي للنظام الشرعي، لكن، في أوكرانيا، الجارة التي تقع في قلب روسيا، وفي قلب مشروع أوروآسيا، هل كان التدخل العسكري المباشر مستبعداً أيها المحللون السياسيون؟