في اجتماع ضمّ أركان الدولة، شن الملك عبدالله الثاني هجوماً على الحركة الوطنية الأردنية المتنامية لمقاومة الوطن البديل؛ لعل أكثر ما تحسَّب له هو ما شهدته الأسابيع السابقة من انضمام شخصيات رفيعة من البيروقراطية المدنية والعسكرية إلى أجواء تلك الحركة.
اعتبر الملك، مشروع الوطن البديل، «وهماً»، بمعنى أنه غير موجود بالأساس، إنما تستخدمه أوساط تريد إثارة «الفتنة» في البلاد، وهدّد بنشر أسماء النشطاء الوطنيين على الملأ؛ يعني ذلك، عملياً، اعتماد «قائمة سوداء» تخضع للاستبعاد السياسي، والمتابعة والضغوط الأمنية، وربما المحاكمات، وتهديدات البلطجية، بالإضافة إلى الحصار المعيشيّ والحرمان من الوظائف والفرص والمنابر؛ باختصار، نحن أمام استعادة للأساليب المكارثية الأميركية ضد اليسار، إنما الموجهة ضد الوطنية المحلية لشعب مقهور.
تبع الخطاب الملكي، على الفور، سياسيون ــــ بينهم، للأسف، الأمين العام للحزب الشيوعي، منير حمارنة! ــــ وصحافيون وكتّاب، وبدأت ماكنة الهجوم تدور: مقاومة التوطين والتجنيس وخطة كيري والتطبيع الاقتصادي المتزايد مع العدوّ، «تعصّب» و«فتنة» و«تعبير عن مصالح خاصة»، بينما «الوطنية» تكمن في الخضوع لمتطلبات المشروع الأميركي ــــ الإسرائيلي؛ ولكن المزدان، بالطبع، بثوب ليبرالي. إنه ــــ بالدارجة الأردنية ــــ «زمن الشقلبة»؛ فرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تحوّل، لدى أوساط متسعة من «الثوار» والليبراليين الوهابيين، صديقاً، ودمشق عدواً؛ ومقاومة الإرهاب أصبحت هي التي تجلب الإرهاب؛ والتأكيد على حق العودة إلى فلسطين، غدا «عنصرية»، بينما تسهيل الهجرة من فلسطين والتوطين السياسي للفلسطينيين، غدا عنوانا لـ «الوحدة الوطنية»؛ والعلماني صار «طائفياً حاقداً»، والطائفي الحاقد، صار «ثائراً»! خطاب النظام الأردني ــــ وليس في الأمر مفارقة ــــ ينهل من خطاب 14 آذار اللبناني: إدانة المقاومة بوصفها المشكلة؛ لا توجد تهديدات ولا أطماع إسرائيلية، هذا «وهم» يبثه المقاومون للحفاظ على سلاحهم لأغراض أخرى! بينما المقاومة هي التي تستفز العدوان الإسرائيلي والتكفيري! ولا يوجد خطر على تفكك الدولة وذبح وتشريد فئات اجتماعية بكاملها في سوريا على أيدي الإرهابيين، بل المشكلة تكمن في رئاسة بشار الأسد! يكفي أن يتنحى، لكي ينسحب التكفيريون ويتلاشى الفكر التكفيري وتنعم سوريا بدولة مدنية تعددية مكتظة بالزهور! ومشروع الوطن البديل، الماشي فعليا في الأردن، لا وجود له؛ المشكلة تكمن في المجموعات التي تقاومه!
خطاب واحد هدفه بث «الشعور بالذنب» لدى البيئات الاجتماعية للمقاومين، وتحويل المقاومة من موقع الهجوم السياسي والثقافي والأخلاقي، إلى موقع دفاعي. إنها المعركة الأولى التي ينبغي خوضها، وكسبها؛ فخسارة عقول وقلوب جماهير حركات المقاومة، لا يمكن تعويضه. المئات من النشطاء الأردنيين ردّوا ببيان ما يزال يحصد التوقيعات؛ وفّروا على السلطات، قيامها بإعلان «اللائحة السوداء»، من خلال المبادرة إلى تسجيل أسمائهم في لائحة المقاومين: «نعلن، نحن الموقعين أدناه، أننا نقاوم، بلا كلل، مشروع الوطن البديل والدولة البديلة»، مؤكدين أن «المقاومة الوطنية هي حق مكفول لكل انسان على وجه الأرض. ولكل أردني الحق الدستوري والوطني والإنساني في مقاومة كل القوى الساعية إلى تغيير هوية وطنه ودولته وتحويله إلى هندي أحمر في بلده». هذا الوصف: «هندي أحمر»، واقعي وليس مجازياً؛ فالأردنيون يتحوّلون، مع التصاعد المستمر في الهجرة والتجنيس والتوطين السياسيين، إلى أقلية في وطنهم. وإلى ذلك، ينحدر وضعهم الاقتصادي الاجتماعي إلى وضع الأقلية المفقرة المهمّشة: تضطر النخب الشابة من المهنيين المؤهلين منهم إلى انكار أصولها الشرق أردنية، للحصول على وظائف في الشركات، وأسر شابة عديدة يصعب عليها استئجار شقة في عمان، حتى لو توفّر لديها المال اللازم، بسبب كونها شرق أردنية! 780 ألفاً من أبناء المحافظات في حالة جوع بالمعنى الفني (أي أنهم لا يحصلون على السعرات الحرارية الكافية يومياً)، وحوالي المليونين منهم تحت خط الفقر، ورغم محاولات طلائعهم الشجاعة لتنظيم صفوفهم سياسياً، والاحتجاج على الظلم الاجتماعي والقهر السياسي، فإنهم يراكمون الفشل جراء المداخلات الأمنية الحثيثة والمموّلة بسخاء، واضطرارهم إلى العمل بوظائف حكومية (طالما أن القطاع الخاص يرفضهم لأسباب عنصرية)، وأخيراً بسبب الهجوم الإعلامي والثقافي والنفسي المستمر الذي يشعرهم بالذنب كونهم فقراء وعشائريين وجهويين ومجرد عالة على الدولة والهاشميين الخ، ويشترك النظام ومعارضته ــــ التقليدية الممثلة لبرجوازية عمان ــــ معا، في تهميشهم سياسيا من خلال تصوير مطالبهم الوطنية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وكأنها معادية للفلسطينيين! وحالما يحوز نشطاء منهم على التحرر الذاتي، والشروع في التعبير المنظّم عن حساسية وطنية مضادة للتطبيع مع العدو والتوطين السياسي والتآمر على سوريا والفساد والإفقار، تنشط قوى النَظْمة المسيطرة في محاصرتهم معيشيا وأمنيا، وشيطنتهم، وعزلهم... أو استيعابهم في صفوفها كمرتدين. وهو، في النهاية، وضع مؤقت، لن يصمد أمام عوامل الانفجار.