لو كنتُ رئيس التحرير، لاستبقيتُ الزميل فراس الشوفي في سوريا، يتابع تحقيقاته «المنحازة»، إنما شديدة الصدقية والحيوية والإنسانية، والمكتوبة بروح أدبية؛ يمكننا، نحن مؤيدي «الدكتاتورية»، أيضاً، بل نحن أحقّ من غيرنا في تغطية صحافية وفكرية وأدبية نابضة بالحياة عن نضال القوى الاجتماعية التقدمية السورية، المنحازة إلى الدولة القومية العلمانية والتعددية الاجتماعية الثقافية، اللتين تمثّلان هوية وطننا الأم في وحدتها وأصالتها الحضارية، واكتنازها بالمعاني والدلالات والمشاعر التي تُمسك بشغاف القلب، حين نهتف: تحيا سوريا!
تطرح تحقيقات الشوفي على العقل «اليساري» ــــ الليبرالي ــــ الإنسانوي ــــ المعارض، تحدّي اكتشاف الفردية والنزعة الانسانية لدى مقاتلين في صفوف النظام، ليسوا «شبّيحة»، ولا يدافعون عن مصالح فئوية، وإنما رؤية للعالم ونمط حياة وثقافة وقلوب مكتظة بالمشاعر، كما نلمسها لدى المقاتلين القوميين السوريين الاجتماعيين في المناطق، وعلى محاور القتال. (ومن المؤسف أن أحداً لم يقارب، فردياً وإنسانياً، مقاتلي المقاومة في سوريا؛ فنتعرّف على قلوبهم كيف تنبض في القتال).
تجتذب راية «الزوبعة»، اليوم، خصوصاً مقاتلين دروزاً ومسيحيين تلزّهم الحرب إلى الانخراط فيها، لكنهم لا يريدون أن يشكّلوا ميليشيا طائفية؛ ألا يتضمن هذا الحل معنيين إيجابيين: التوق إلى الاندماج القومي، وقدرة الحزب القومي على تأمين هوية جامعة لكل السوريين، تعبّر عن مشتركاتهم وتعلو على تصنيفاتهم الفرعية؟
«الزوبعة»، إذاً، ليست، فقط، راية قتال في خندق الدولة، وإنما هي، أيضاً، حل جذري لمشكلة هوية الدولة في سوريا. وتتمثل هذه المشكلة في ارتباك وقلق دائمين بين هوية قومية عربية تحوّل سوريا إلى مجرد قطر عربي ــــ لا يستكمل ذاته إلا بالوحدة، تحت قيادة مصرية ــــ وبين هوية وطنية محلية منكفئة على ذاتها، كأنها تونس مثلا.
ظل الفكر السياسي السوري طويلاً، وربما لا يزال، أسير هاتين الهويتين الناقصتين؛ فسوريا، بوصفها دولة مركزية، لا يمكنها أن تكون في المحل الثاني في اصطفاف الهوية العربية. وإذا كان الرئيس حافظ الأسد، قد خلّصها من دونية الاصطفاف إلى القيام بالدور الإقليمي المركزي، فإن ما فعله في هذا المجال، بقي على مستوى العمل دون النظر؛ فلم يتحقق في انتقال فكري، ربما أعاقه انتماء الرئيس إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. كذلك شهدنا، في عهد الرئيس بشار الأسد، انتقالاً مضاداً إلى الوطنية المحلية، لم يتجسد هو الآخر في قطيعة فكرية مع البعث العربي، لم تكن، بالطبع، لتحدث؛ ذلك أن سوريا في تعددها الطائفي والاثني والثقافي وامتداداتها في لبنان وفلسطين والأردن، هي أكبر من أن تتحول إلى هوية وطنية محلية، ليس في إطارها رابط يجمعها، ولا في مضمونها حافز يستجيب لمكانها ومكانتها ودورها.
هذه الفوضى في تحديد هوية الدولة السورية، مسؤولة، ولو جزئيا، عن تنامي الاسلام السياسي ــــ ودوره التخريبي ــــ وانشقاق المعارضات عن روح الدولة، وانشقاق الأكراد عن جسم الجمهورية؛ فما البديل؟
البديل يكمن، من دون التباس، في قوميّة الدولة السورية، أي في الهوية القومية السورية التي تدمج، على قدم المساواة، الاثنيات والطوائف والمذاهب والمحليّات، في هوية واحدة، تتماهى مع هوية أوسع لتشمل الأقطار الشامية والعراق، هي الهوية المشرقية، العربية، وإنما المستقلة، في مشروعها القومي الحضاري الخاص، عن الخليج، كما عن مصر والمغرب العربي؛ أي أننا نقترح، هنا، ثلاث دوائر متجانسة متصاعدة للهوية: سورية ــــ مشرقية ــــ عربية؛ الأولى للدولة السورية، والثانية لوحدة الهلال الخصيب، والثالثة للتضامن العربي.
تواجه سوريا، العدوانَ، بينما هي في أزمة؛ ولذلك، فإن معادلة النضال السوري تتمثل بالدفاع وبالتجديد معا، بالبندقية وبالفكرة، أي بالرؤية والبرنامج النضالي. وقد حاز السوريون القوميون الاجتماعيون شرف البندقية؛ فماذا عن الفكرة الجديدة اللازمة لإعادة تقديم الحزب كإجابة على السؤال السوري الراهن؟
أخشى أن تنصرف تجربة القتال السورية القومية إلى ما يمكن تصوره رصيداً حزبياً بالمعنى التنظيمي، بينما يمكن أن تنصرف التجربة إلى ما هو أبعد بكثير، أي إلى توحيد واطلاق حركة قومية جديدة تدمج وتنظّم التعددية السورية في سياق فكري وثقافي وسياسي ونضالي في سوريا. وهو ما يتطلب إعادة قراءة مرتبطة باحتياجات الجمهورية ووحدتها ونهضتها. وهي قراءة لا بد منها على مستوى لبنان أيضاً، لاكتشاف وتحديد ماذا يعني أن تكون سورياً قومياً في الجمهورية اللبنانية، بما يستنهض حركة جديدة تخرج بالسوريين القوميين من الالتزامات اليومية الخاصة بتحالف 8 آذار، إلى الانخراط مع تيارات يسارية ووطنية وعروبية، ترى في الحركة المشرقية إطارا لوحدتها، ومقدمة للمجابهة الثورية مع ستاتيكو النظام الطائفي.
وفي الأردن وفلسطين والعراق، حيث الحضور السياسي والحزبي للسوريين القوميين في غاية الضعف، وأحياناً الضمور الكامل، تغدو الحركة المشرقية الصاعدة، فرصة حياة.
8 تعليق
التعليقات
-
سوريا تنتصرأسطورة طائر الفينيق والإنبعاث والتجدد تستمدها أمتنا من تاريخها. تحدث الزعيم سعاده عن قَدَر الأمم الحية قائلاً:"لوفررنا من النصر لما وجدنا غير طريق النصرسبيل". الإنتصار هو مصير الأمم الحية وهذه مسألة حتمية. وسوريا هي أمة حية تأبى القبر مكاناً لها تحت الشمس. على القوميون الإجتماعيون رص الصفوف وتوحيدها لنهضة سوريا المستقبل لكم.
-
أمة عربية واحدةشعار تربّينا عليه صغارا وعمقّه والد بعثيّ من الطراز القديم الذي كان يرفض الخوض في الطائفة التي ننتمي إليها مصرّا على تربيتنا بأننا عرب وفقط لاغير ،، أين من هذا الرجل اليوم هذا الحزب الذي انتمى إليه فكرا رغم أنه لاحظ كل الشوائب التي تشوبه وحرفته عن مساره ،، والنتيجة أولاد حملوا ذاك الشعار إلى يوم تفتّح العقل فلم يجدوا في تلك الأمة الواحدة مايجمع !!! حتى اللغة أدركت يوما أنها ليست جامعة بالضرورة حين اضطررت أن أتابع فيلما تونسيا من خلال الترجمة إلى الفرنسية لأني لم أفهم معظم مفردات الفيلم !!! وحدة الهموم ووحدة اللغة والتراث والثقافة والفولوكلور والأغاني الشعبية والأهازيج في الأفراح والأحزان مثالا ، نراها متشابهة في دول سوريا الطبيعية بغضّ النظر عن أي انتماء لحزب ،،، إحياء الانتماء لسوريا الطبيعية اليوم يجب أن يأخذ مكانته بين أبناء هذا الجيل ،وخصوصا أن مايحدث في أقطارنا اليوم يخلق شوفينيّة قطريّة لابد من البدء بتسليط الضوء عليها.
-
ليست الزوبعة فقط ، كلنا في سوريا ولهافي العمل السياسي ، وفي إطار ما أتى الأستاذ ناهض على ذكره حول الزوبعة ، لا بد من توضيح بعض الاشتباكات الخاطئة التي خلقت التباساً أو انفعالاً وأظهرت إشكاليات قد تبدو خلافية ، لكنها من منظور واقعي ، لا تعدو عن كونها قد أتت نتيجة اختلاف الثقافات وتنوعها . إن للنظرة الوطنية أولوية على النظرة القومية ، لكن أن يتم الأمر بنظرة تكاملية إليهما - تقول بأن المصلحة القومية تصب في المصلحة القومية والعكس صحيح أيضاً - يحل الإشكالية . وعند وجود أقليات من قوميات أخرى لها مصالح قومية ربما تختلف عن المصلحة الوطنية ، لا بد من الأخذ بالاعتبار الخصوصية القومية بما لا يتعارض مع المصلحة الوطنية . أما الاختلاف الناتج عن تنوع أطياف المجتمع ، يمكن النظر إليه بشكل إيجابي ووصفه بالسليم والصحيح إذا أخذ شكل التشبيك بين هذه الأطياف لتحقيق المصلحة الوطنية الخالصة ، أما أن يكون التنوع سبباً للانقسام والاختلاف فذلك يؤدي إلى التطرف والتعصب ، مما يجعل أثره سلباً بالمطلق . اختلاف الأيدلوجيا وتواجد الأحزاب السياسية ودينامكية العمل على الأرض والتواجد في ساحات النضال الحقيقي بما في ذلك ظروف التنافس وإثبات الشعبية غبر صناديق الاقتراع وتبني الديمقراطية بالفكر والعمل ، وغير ذلك مما يأتي في هذا السياق ، ومن خلال التطلع لمستقبل سورية ، أرى ضرورياً تكوين جبهة تقوم على أساسيات التكامل وتوزيع الأدوار والوقوف في صف واحد ضد أعداء تاريخيين ، العمل بمسارات وإن كانت متباينة بالنهج إلا أنها توصل لهدف الوطنية الخالصة نحن بأمس الحاجة لنعمل بمقولات : التشبيك والمساهمة والتشاركية لنوصل إلى ديمقراطية حقيقية .
-
الزوبعة... في سورية ولهاشكرًا ناهض، فنحن بحاجة لأمثالك ليضيءعلى مكامن قوة في أمة جريحة.
-
الزوبعة!رائع، كعادتك، أستاذ ناهض!
-
هل توافق إيران؟طيب اقترح وحدة بين سوريا والعراق برئاسة المالكي.
-
أصبتها في العمق يا ناهض. ونعمأصبتها في العمق يا ناهض. ونعم نعم نعم يجب أن يخرج المنتظمون القوميون في 8 اذارالمتقوقعون الى رحاب الأمة التي هي لم تكن بحاجة لهم كما هي الان.